للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

المجرى، وكادت تفقد الصلة بين شعر الطبيعة القديم والجديد، على أن نفس الآثار اليونانية ليس فيها ما يدل على شيوع هذا الضرب من شعر الطبيعة عند اليونان القدماء. هم ألَّهوا الطبيعة وملئوها بالآلهة، ولكنهم لم يعبروا عن شعورهم نحوها كما يعبر شعراء الحركة الرومانسية وكما يعبر ابن الرومي. وليس معنى ذلك أنهم أهملوها كل الإهمال، ولكن معناه أنهم لم يصفوها بهذا الاتساع والعمق والهيام المعروف عند أصحاب الرومانسية، ولعل ذلك ما جعل شيلر يقول: "إن اليونانيين كانوا يتأملون الطبيعة بعقولهم لا بعواطفهم فلم يرد لهم عندهم أي ذكر يشعرنا صريح حبهم إياها وإعجابههم بها"١، ويقول همبولت: "إن تصوير الطبيعة لذاتها وفي مختلف مظاهرها كان بعيدًا عن أفكار اليونانيين، ويصرح بأن المنظر الطبيعي يشغل الجزء الظهري من صورتهم بينما تشغل الجزء المهم منها شئون الناس وأعمالهم وأفكارهم"٢.

شعر الطبيعة في الواقع شعر حديث، وليست له صلة قوية بالأدب اليوناني القديم، ونفس أوربا حين كانت تعيش في العصور الكلاسيكية لم يزدهر هذا الضرب من الشعر عندها؛ لأنه لا يتصل بتقليد القدماء، أما قبل ذلك حين كانت لا تتقيد تقيدًا شديدًا بتقليدهم أي في القرن السادس عشر؛ فإننا نجد هذا الضرب من الشعر، كما نجد الأغاني الشعبية، فلما جاء مالرب"malherbe" ثم بوالو وراسين أصبح الشعر مقيدًا، ولم يعد يعنى بالحديث عن الطبيعة؛ فلما ظهرت الحركة الرومانسية وتحلل الشعر من قيوده الكثيرة اتصل مرة أخرى بالطبيعة وحياة الناس اليومية٣، وقد حاول "ورد زورث" على ما هو معروف أن يستعمل اللغة الدارجة في أغانيه المسماه باسم"bllads" على كل حال يرينا تطور الشعر في أوربا في أثناء العصور الحديثة أن شعر الطبيعة إنما يشيع حين يصبح


١ كتاب: ما خلفته اليونان، طبع لجنة التأليف والطب والنشر، ص١٦٨.
٢ نفس المصدر ص١٦٨.
٣ انظر في حركة الرومانسية ومنابعها وثورة أصحابها على أوضاع الكلاسيكية كتاب: Paul Van Tieghem, le Mouvement Romantique

<<  <   >  >>