الشعر شعبيًّا أو يكاد، وينفصل عن القدماء من يونان وغير يونان. وهذا نفسه ما نلاحظه عند العرب فقد نما شعر الطبيعة واتسعت أبوابه حين قرب الشعر من التعبير عن الحوادث اليومية وأصبح أدنى إلى الواقع الحسي، واقع الجماعة، على نحو ما نعرف في تاريخ الشعر الأندلسي؛ إذ ظهرت هناك الموشحات والأزجال وظهر معهما شعر الطبيعة. ونفس ابن الرومي صاحب شعر الطبيعة في القرن الثالث كان ينزل بأسلوبه إلى درجة دانية من الأساليب اليومية حتى ليحس الإنسان عنده بضروب من الإسفاف، وكان هو نفسه يعرف ذلك فقال يصف شعره، وقد عابه بعض من عاصروه:
قولا لمن عاب شعرَ مادحِه ... أما ترى كيف رُكِّب الشجرُ
ركِّب فيه اللِّحاء والـ ... خشبُ اليابسُ والشوكُ بينه الثمرُ
فشعره فيه اللحاء وفيه الخشب، وفيه الورد وفيه الشوك، فيه المتين المصقول وغير المتين المصقول. وهذا هو ما يدفع ابن الرومي عن مدرسة المصنعين؛ فقد كان لا يعنى بتجميل شعره، وأن يخرج في زخارف التصنيع المختلفة، وهو مع ذلك قد يأتي بهذه الزخارف، ولكن دون أن يتخذها مذهبًا؛ إذ تأتي عابرة.
ولم يكن ابن الرومي من ذوق المصنعين، ومع ذلك فقد كان يستعير منهم أدواتهم، كما نرى الآن في شعر الطبيعة فقد اعتمد عنده على التشخيص الذي فتحه أبو تمام في الشعر العربي على نحو ما سنعرف في الفصل التالي. وقد استعار ابن الرومي هذه الأداة واستخدمها استخدامًا واسعًا في شعره، وهو استخدام لا يرجع إلى يونانيته -كما ظن بعض النقاد- وإنما يرجع إلى مزاجه فقد كان شديد الحس مرهف الشعور، فأغرم بالطبيعة وظل مشغوفًا بها، فهي تهيج روحه ومشاعره.
واستعار ابن الرومي أداة أخرى من أدوات التصوير عند أبي تمام، وهي أداة التجسيم، واستخدمها في شعره استخدامًا واسعًا على نحو ما رأينا في صنيعه بأداة التشخيص. وانظر إليه يجسِّم هنوات صاحبه القاسم بن عبيد الله فيجري بينه وبينها هذا الحوار الغريب: