للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

في العصر الجاهلي هو زهير صاحب الحوليات؛ فقد كان يأخذ شعره بالثِّقاف والتنقيح والصقل، وكأنه يفحص ويمتحن ويجرب كل قطعة من قطع نماذجه؛ فهو يعنى بتحضير مواده، وهو يتعب في هذا التحضير تعبًا شديدًا.

ومن يتتبع القدماء في درسهم له يجدهم يلاحظون أنه خرج من بيت شعر، إذا كان زوج أمه أوسن بن حجر شاعرًا، وكذلك كانت أخته شاعرة، وكان ابنه كعب شاعرًا مشهورًا، وقد مدح النبي -صلى الله عليه وسلم- بقصيدة معروفة، ولكعب أخ يسمى بجيرًا كان شاعرًا أيضًا١، وإذا استمررنا وجدنا لكعب أبناء وأحفادًا من الشعراء؛ فزهير شاعر خرج من بيت شعر. وإذا رجعنا إلى ترجمة الحطيئة في الأغاني وجدناه يقول لكعب: إنه لم يسبق من أهل بيتنا إلا أنا وأنت، وتتفق الروايات على أن الحطيئة كان راوية لزهير، وأن هُدْبة كان راوية للحطيئة، وأن جميلًا كان راوية لهدبة، وأن كثيِّرًا كان راوية لجميل٢.

وإذن فنحن أمام مدرسة في الشعر أستاذها زهير وتلامذتها جماعة، تارة يكونون من من أهل بيته، وتارة لا يكونون، وهي مدرسة "كانت تعتمد على الأناة والروية، وتقاوم الطبع والاندفاع في قول الشعر مع السجية؛ فكثر عندها التشبيه، والمجاز والاستعارة، واتكأت في وصفها على التصوير المادي، وأن يأخذ الشاعر نفسه بالتجويد والتصفية والتنقيح ثم التأليف"٣. قد يقول قائل وأين امرؤ القيس وما موضعه من هذه المدرسة، وقد عرفناه يكثر من التشبيهات، كما نرى في معلقته؛ فهو إذن رأس المدرسة أو هو أحد أفرادها. والقياس منكسر فإن الطريقة البيانية عند امرئ القيس تعتمد -كما رأينا- على تراكم التشبيهات، وأن تخرج الأبيات في صفوف منها متلاحقة، وتلك مرتبة أولى من مراتب الطريقة البيانية، أما حين نتقدم عند زهير؛ فإننا نجد هذه الطريقة تنعقد وكأنها تغاير ما ألفناه عند امرئ القيس مغايرة تامة.


١ أغاني "دار الكتب" ١٠/ ٣١٤.
٢ أغاني "دار الكتب" ٨/ ٩١.
٣ انظر كتاب "في الأدب الجاهلي" لطه حسين ص٢٨٦.

<<  <   >  >>