للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولعل أول ما يسترعى الباحث في عمل زهير، أنه يُعْنَى بتحقيق صوره فهو لا يأتي بها متراكمة، كما كان يصنع امرؤ القيس؛ بل يعمد إلى تفصيلها وتمثيلها بجميع شعبها وتفاريعها، وكأنه يبحثها ويحققها. وانظر إلى قوله في وصف بعض النسوة١:

تنازعها المها شَبَهًا ودُرُّ النـ ... ـحور وشاكهت فيها الظباء٢

فما ما فُوَيْقَ العقد منها ... فمن أدماء مرتعها الخلاء٣

وأما المقلتان فمن مَهاةٍ ... وللدُّرِّ الملاحة والصفاءُ

فإنك تلاحظ أن زهيرًا لم يكتفِ بأن يشبه صاحبته بالظباء والمها والدر جملة بل رجع إلى تفصيل ذلك وتحقيقه؛ فجعل للظباء ما فويق العقد وجعل للمهاة عينيها وللدر الملاحة والصفاء. وهذا هو معنى ما نقوله من أن زهيرًا كان يحقق صورة، ولم يكن يعتمد في هذا التحقيق على اللغة وحدها؛ بل كان يعتمد قبل كل شيء على أن تكون الصورة واسعة هذه السعة التي تتضمن التفصيل والتفريغ وكأنه يريد أن يحملها أكثر طاقة ممكنة في التعبير والتمثيل. وكان لزهير مهارة خاصة في استخدام الألفاظ والعبارات المثيرة التي تجعل المنظر كأنه يتحرك تحت أعيننا، وانظر إلى قوله في وصف صيد وحكايته للغلام الذي أنبأه به٤:

إذا ما غدونا نبتغي الصيد مرةً ... متى نرهُ فإننا لا نخاتله٥

فبينا نُبغِّي الصيد جاء غلامنا ... يدبُّ ويخفى شخصه ويضائله٦

فقال: شياهٌ راتعات بقفرةٍ ... بمستأسد القُرْيان حُوّ مسايلُهْ٧


١ ديوان زهير "طبعة دار الكتب" ص٦١.
٢ المها: بقر الوحش. شاكهت: شابهت.
٣ أدماء: ظبية بيضاء. شبهها بالظباء في طول العنق.
٤ ديوان زهير ص١٣٠.
٥ غدونا: بكرنا. نبتغي: نطلب. نختاله: نمكر به ونصيده دون أن نجاهره.
٦ نبغي: نبتغي. يدب: بمشي هونًا. يضائله: يصغره.
٧ الشياه هنا: الأتن. المستأسد من النبت: الذي طال وتم. القريان: مجاري المياه.
الحو: النبات الضارب إلى السواد.

<<  <   >  >>