للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ثلاثٌ كأقواس السَّرَاء ومِسْحَلٌ ... قد اخضرَّ من لَسِّ الغمير جحافله١

فإنك تلاحظ أن زهيرًا يستطيع أن يبث الحياة والحركة في تصويره بنفس صياغته وتعبيره، وارجع إلى البيت الثاني؛ فإنك تراه ينقل به المنظر نقلًا دقيقًا نتأثر به تأثرًا عميقًا، أليس زهير يعرف سر مهنته؟ إنه يعرف كيف يصور الحوادث الماضية؛ فإذا هي تمر أمام أبصارنا وكأننا نشاهدها، وهو لا يبتغي ذلك من تشبيهات متراكمة؛ إنما يبتغيه في طبيعة التعبير نفسه فيعبر بالفعل المضارع حتى يجعلنا نتمثل حوادثه الماضية. وانظر إلى معاني الأفعال وحكايتها للصورة، فغلامه يدبّ دبيبًا، وهو يخفي شخصه كأنه يتوارى عن الأعين، وانظر إلى الفعل الأخير "يضائله" فإنه يفيد معنى التدرج الذي يلازم صورة متحركة، وانظر بعد ذلك إلى البيت الأخير وهذا اللون الأخضر الذي علق بفم الوحش لكثرة ما أكل من النبات فإنك تجد مادة أخرى من مواد التصوير عند زهير إذ تراه لا يكتفي "بالتفصيل" ولا باستعمال "العبارات التي تجعل الأشياء كأنها منظورة" بل هو يضيف "التدبيج" أي لون موصوفاته إلى تصويره حتى يأخذ الشكل ويستتم الوصف.

كان زهير يعنى بتصويره عناية شديدة وكان ما يزال يحتال على إحكامه تارة بتفصيله وتارة بتلوينه وأخرى باستخدام العبارات التي تعطيه قوة المنظور، وكأنه كان يعرف في دقة الكلمة التي تلائم وصفه معرفة الصانع الماهر الذي اطلع على كثير من أسرار فنه والأدوات التي يستخدمها في صناعته. ويستطيع القارئ أن يعود إلى مطولته فسيراها تصور مهارته في صنع صوره تصويرًا دقيقًا، وانظر إليها يستهلها بقوله:

أمِنْ أمِّ أوفى دمنةٌ لم تكلَّمِ ... بِحَوْمَانةِ الدَّرَّاج فالْمُتَثَلَّمِ٢


١ السراء: شجر تتخذ منه القسي. شبهها بها في الضمور. المسحل: حمار الوحش. الغمير: نبت. لسه: أخذه بمقدم الفم. الجحافل. بمنزلة الشفاة للحمير والخيل والإبل.
٢ أم أوفى: زوجة زهير الأولى وهي غير أم كعب وبجير. والدمنة: ما اسودّ من آثار الديار. والحومانة: الأرض الغليظة. والدراج والمتثلم: موضعان.

<<  <   >  >>