إلى دائرة المصنِّعين؛ لأنه كان يفهم الشعر بصورة أقرب من الصورة التي علقت بأذهان أصحاب التصنيع؛ فلم يكن يعتقد مثلهم بأن الشعر جهود عنيفة يبذلها الشعراء في استحداث تلك الزخارف الدقيقة التي شغف بها أبو تمام وأمثاله. ليس الشعر زخرفًا وتصنيعًا؛ بل هو تعبير، ومن الممكن أن يضاف إلى هذا التعبير شيء من الحلي والوشي المرصَّع، ولكن في خفة، وبدون أن يتعمد ذلك الشاعر تعمدًا يخرج به عن غرضه الأساسي من التعبير عن خواطره إلى التعبير عن ألوان التصنيع الأنيقة. ومن هنا كانت جماعة الصانعين تستعير أدوات التصنيع في بعض الأحيان، ولكن دون أن تستمرَّ في ذلك، ودون أن تتخذها مذهبًا في صناعتها، قد تطبقها ولكنها لا تستمر في التطبيق. وربما أخفقت في هذا التطبيق، كما أخفق البحتري في كثير من طباقه، وكما أخفق ابن الرومي أحيانًا في استخدامه للفلسفة كزخرف جميل؛ فقد رأيناه يقف في هذا الجانب عند استعارة الصياغة المنطقية؛ بينما رأينا أبا تمام يستخدم الفلسفة فيعقد بها في طباقه، ويستخرج هذا اللون الجديد من نوافر الأضداد الذي سبق أن وصفناه.
ونحن نلاحظ من طرف آخر أن طائفة الصانعين كانت تختلف فيما تستعيره من أدوات المصنعين ووسائلهم؛ فقد كان البحتري يستعير أدوات الطباق والجناس؛ بينما كان ابن الرومي يوسع هذه الاستعارة إلى أدوات من الثقافة والمنطق والتشخيص والتجسيم. ونفس الأدوات التي اتفقا في استعارتها اختلفا في استخدامها؛ فقد كان البحتري يعجب بالطباق أكثر مما يعجب بالجناس؛ بينما كان ابن الرومي يعجب بالجناس أكثر مما يعجب بالطباق. ونفس الجناس اختلفا في استخدامه؛ فبينما كان البحتري يستخدم الجناس الكامل كان ابن الرومي يكثر من استخدام جناس الاشتقاق. وليس هذا كل ما بينهما من خلاف؛ فقد اختلفا في صنعة الأسلوب نفسه؛ إذ كان البحتري يعنى بصفاء تعبيره حتى يحدث فيه صناعته الصوتية الخاصة.
وكل ذلك دليل على أن جماعة الصانعين في القرن الثالث كانت تستعير من جماعة المصنعين بعض أدوات التصنيع غير أنها لم تكن تطبقها في نماذجها