للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قال له الكندي الفيلسوف، وكان حاضرًا: الأمير فوق ما وصفت، فأطرق قليلًا، ثم رفع رأسه وأنشد:

لا تنكروا ضربي له من دونه ... مثلًا شرودًا في النَّدى والباسِ

فالله قد ضرب الأقلَّ لنورِه ... مثلًا من المشكاة والنِّبْرَاس١

فعجبوا من سرعة فطنته٢:

وهذا الذكاء الحاد استخدمه أبو تمام استخدامًا واسعًا في تمثل الشعر الذي سبقه من قديم وحديث؛ فقد وعى وعيًا دقيقًا صورة الشعر العربي بجميع خطوطها وألوانها وكل ما يجري فيها من أضواء وظلال، وانتحى ناحية مسلم بن الوليد في تصنيعه؛ إذ كان ذوقه ذوق متحضرين يغرم بالتصنيع والزينة حتى في ثيابه ومطعمه٣، بل لقد كان ذوقه ذوق نحات أصيل، فهو يقيم قصائده وكأنه يرفع تماثيل باذخة. ولذلك لا نعجب حين نجده يتمسك بالأسلوب الجزل الرصين؛ فهو الذي يلائم ما يريد من ضخامة البناء ومتانته وقوته، وقد تحولت عنده معاني الشعر إلى ما يشبه جذاذات العلماء، فهو يتناولها ممن سبقوه ويخرجها إخراجًا جديدًا يستعين فيه بدقة فكره وروعة خياله، مضيفًا إليها كثيرًا من دقائق ذهنه وبدائع ملكاته.

ونحس كأن الشعر أصبح تنميقًا وزخرفًا خالصًا؛ فكل بيت في القصيدة إنما هو وحدة من وحدات هذا التنميق والزخرف، وهو ليس زخرفًا لفظيًّا فحسب، بل هو زخرف لفظي ومعنوي يروعنا فيه ظاهره وباطنه وما يودعه من خفيَّات المعاني وبراعات اللفظ. وبذلك انتهى مذهب التصنيع إلى غايته، وهو يقف فيه علمًا شامِخًا لا تتطاول إليه الأعناق، فكل من قلدوه من بعده كانوا يقعون دونه على السفح، ولعل ذلك ما عدل بالبحتري وابن الرومي عن الدخول معه في هذا المذهب العَسِر الذي صعَّب مسالكه ودروبه على


١ يشير إلى الآية الكريمة: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} . انظر [سورة النور رقم: ٣٥] .
٢ أخبار أبي تمام للصولي ص٢٣١ وأمال المرتضي ١/ ٢٨٩.
٣ طبقات الأدباء لابن الأنباري ص٢١٣.

<<  <   >  >>