الشعراء، وقد عدل عنه المتنبي في القرن الرابع عدولًا لعله أشد من عدول البحتري وابن الرومي، وذهب يفسح في شعره للحكمة والشكوى من الزمن؛ ولكن لا تظن أنه ينفصل في ذلك عن أبي تمام؛ فربما كان هو الذي ألهمه هذا الاتجاه؛ إذ نراه كثيرًا ما يشكو في مطالع قصائده من الدهر وما يصيبه به من الأحداث والكوارث، إلا أنه لا يأتي بذلك منفصلًا عن الحب وشجونه كما يصنع المتنبي بل هو يمزج شكواه بحبه وبكائه ودموعه، وهي شكوى تختلط بغير قليل من الشعور بالكرامة والطموح الذي لا يُحَدُّ على نحو ما نجد في قصيدته:
أأيامنا ما كنتِ إلا مواهبًا ... وكنت بإسعاف الحبيب حبائبا
فإنه بعد حديثه عن حبه وصبابته يصور مغامراته في سبيل المجد ورحلاته التي طوَّف فيها مشارق العالم العربي ومغاربه وما صادفه من خطوب لم تكَفْكِف من عزمه، ولا خضدت من غرب همته، ويسوق في تضاعيف ذلك بعض الحكم من مثل قوله:
وقد يكهَمُ السيفُ المسمَّى منيةً ... وقد يرجع المرءُ المظفرُ خائبًا١
فآفةُ ذا أن لا يصادف مضربًا ... وآفةُ ذا أن لا يصادف ضاربًا
ودائمًا لا يتخاذل ولا يلين أمام حوادث الدهر، بل يغالبها مغالبة على شاكلة ما نجد عند المتنبي، وبذلك كله كان يقف في مفرق طريقين: طريق الزخرف والتصنيع، وطريق المتنبي من شكوى الزمن فيها قوة وطموح.
ومعنى ذلك أن التنميق والزخرف عند أبي تمام لا يحجبان عنا مشاعره وأحاسيسه بل هما جزء لا يتجزأ من هذه المشاعر والأحاسيس. ونحن لا نقرأ فيه حتى نحس أثر عنائه وأنه كان يجهد نفسه في صنع شعره إجهادًا شديدًا، وقد روى ابن رشيق في هذا الصدد عن بعض أصحابه أنه قال: "استأذنت على أبي تمام، فدخلت في بيت مصهرج قد غسل بالماء، فوجدته يتقلب يمينًا وشمالًا، فقلت: لقد