للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بلغ بك الحرُّ مبلغًا شديدًا، قال: لا، ولكن غيره، ومكث كذلك ساعة. ثم قام كأنما أطلق من عقال؛ فقال: الآن أردت، ثم استمدَّ وكتب شيئًا لا أعرفه، ثم قال: تدري ما كنت فيه منذ الآن؟ قلت: كلا. قال: قول أبي نواس "كالدهر فيه شراسة وليان" أردت معناه فشمس عليَّ. حتى أمكن الله منه فصنعت:

شرست بل لنت؛ بل قانيت ذاك بذا ... فأنت لا شك فيك السهلُ والجبلُ١

قال ابن رشيق: ولعمري لو سكت هذا الحاكي لنمَّ هذا البيت بما كان داخل البيت لأن الكلفة فيه ظاهرة والتعمل بَيِّن٢. ويروي ابن المعتز عن محمد بن قدامة أنه قال: "دخلت على حبيب بن أوس بقزوين وحواليه من الدفاتر ما غرق فيه فما يكاد يُرَى فوقفت ساعة لا يعلم بمكاني لما هو فيه، ثم رفع رأسه فنظر إلى وسلم على؛ فقلت له: يا أبا تمام إنك لتنظر في الكتب كثيرًا وتُدْمِن الدرس فما أصبرك عليها، فقال: والله ما لي إلف غيرها ولا لذة سواها وإني لخليق إن اتفقَّدها أن أحسن، وإذا بِحُزْمتين: واحد عن يمينه وواحدة عن شماله، وهو منهمك ينظر فيهما ويميزهما من دون سائر الكتب، فقلت: فما هذا الذي أرى عنايتك به أوكد من غيره؟ قال: أما التي عن يميني فاللَّات. وأما التي عن يساري فالعُزَّى، أَعْبُدُهما منذ عشرين سنة؛ فإذا عن يمينه شعر مسلم بن الوليد صريع الغواني، وعن يساره شعر أبي نواس"٣. ويقول ابن المعتز: إن له ستمائة قصيدة وثمانمائة مقطوعة، وأكثر ما له جيد، والرديء الذي له إنما هو شيء يستغلق لفظه فقط فأما أن يكون في شعره شيء يخلو من المعاني اللطيفة والمحاسن والبدع الكثيرة فلا، وقد أنصف بالبحتري لما سئل عنه وعن نفسه فقال: "جيده خير من جيدي ورديئي خير من رديئه، وذلك لأن البحتري لا يكاد يغلظ لفظه؛ إنما ألفاظه كالعسل حلاوة، فإما أن يشقَّ غبار الطائي في


١ شرست: من الشراسة ضد اللين، قانيت: خالطت.
٢ العمدة: لابن رشيق "طبعة أمين هندية" ١/ ١٣٩.
٣ طبقات الشعراء، لابن المعتز ص٢١٤.

<<  <   >  >>