للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الحذق بالمعاني والمحاسن فهيهات، بل يغرق في بحره؛ على أن للبحتري المعاني الغزيرة ولكن أكثرها مأخوذ من أبي تمام ومسروق من شعره

وهذا الإحسان الرائع الذي وصفه ابن المعتز إنما كان نتيجة ما يبذله من جهد لاحَظَهُ معاصروه، ويروي الصُّولي أن إسحاق الموصلي سمعه ينشد بعض أشعاره فقال له: "إنك تتكئ على نفسك"٢ وينسب إلى الكندي الفيلسوف أنه قال: "هذا الفتى يموت قريبًا؛ لأن ذكاءه ينحت عمره كما يأكل السيف الصَّقيل غمده"٣ وفي رواية أخرى أنه قال: "هذا الفتى يموت شابًا؛ فقيل له: ومن أين حكمت عليه بذلك؟ فقال: رأيت من الحدة والذكاء والفطنة مع لطافة الحس وجودة الخاطر ما علمت أن النفس الروحانية تأكل جسده كما يأكل السيف غمده"٤. وهناك أسطورة تزعم أن الدم ظهر في عينيه من شدة التفكير. فتنبأ له الناس بالموت٥.

والحق أن من يقرأ في شعر أبي تمام يحس إحساسًا واضحًا بأنه كان يشقى في بنائه واستنباط معانيه كما يشقى صيادو اللؤلؤ فهو يتنفس فيه الدم، وكان يشعر بذلك في دقة؛ فأكثر من وصف أشعاره بالإغراب والغرابة على شاكلة قوله:

خذها مغرِّبةً في الأرض آنسةً ... بكل فهمٍ غريبٍ حين تغتربُ

وقوله:

يغدون مغترباتٍ في البلاد فما ... يزلن يؤنسن في الآفاق مغتربا

فهو يطلب الإغراب في فنه، حتى يسبغ على شعره كل ما يمكن من آيات الفتنة والروعة، وقد عاش لصناعته ينمِّيها ويخلع عليها كل ما يمكن من وسائل الزخرف والتصنيع، وما زال بها حتى جعلها تنميقًا وزينة خالصة؛ فهي حَلْيٌ أنيق ووشي مرصع كثير، وصوَّر ذلك في بعض شعره، فقال:


١ طبقات الشعراء، ص٢٨٦.
٢ أخبار أبي تمام للصولي ص٢٢١.
٣ هبة الأيام فيما يتعلق بأبي تمام للبديعي ص٢٦.
٤ هبة الأيام ص٤٠.
٥ معاهد التنصيص ١/ ١٥.

<<  <   >  >>