للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

عزيمته؟ وانظر إليه يعود إلى تصوير الصبح فيقول:

كأنا وضوء الصبح يستعجل الدجى ... نُطير غرابًا ذا قوادم جونِ

فقد جسم اختلاط الظلام بالضياء في ذلك الغراب صاحب القوادم البيضاء وليس من شك في أنها صورة طريفة، وكأني به أراد أن يحكمها أحكامًا، فقال:

وكابدنا السُّرى حتى رأينا ... غراب الليل مقصوصَ الجناحِ

فأنت تراه يجنح في هذا البيت إلى التفصيل في صورة الغراب بأكثر مما صنع في البيت السابق؛ إذ عبر عن القِصَر الذي يصيب أطراف الليل بهذا القصِّ الغريب لجناح الغراب، وكل ذلك ليضبط الصورة ضبطًا دقيقًا.

ومهما يكن فإن ابن المعتز كان يحسن استخدام صبغ التشبيه إحسانًا شديدًا؛ فإذا هو يستخرج منه تلك الصور والأوضاع الكثيرة التي تروعنا روعة هذه المياه التي رآها في ربع صاحبته، فحكى صورتها في قوله:

وماءٍ دارسِ الآثار خالٍ ... كدمعٍ حارَ في جفنٍ كحيلِ

وحقًّا إن الإنسان ليذهب إزاء هذه الروعة في التصوير؛ حتى ليتمنى أن لو صار إليه شيء من إحساس ابن المعتز حين تمثل هذه الصور، وانظر إليه يصف الرياض في منظومته "ذم الصّبوح"؛ إذ يقول:

ألا ترى البستان كيف نوَّرا ... ونشر المنثورَ زهرًا أصفرا

وضحك الوردُ إلى الشقائق ... واعتنق القطرَ اعتناقَ وامقٍ

في روضة كحلل العروس ... وخرَّم كهامة الطاوس

وياسمين في ذرى الأغصان ... منتظم كقطع العِقْيَانِ

والسَّرو مثل قضب الزبرجدِ ... قد استمد العيش من ترب ند

على رياض وثرى ثري ... وجدول كالمبردِ المجلي

وأخرج الخشخاش جيبًا وفتقْ ... كأنه مصاحفٌ بيضُ الورق

أو مثل أقداحٍ من البلور ... تخالها تجسَّمت من نور

وبعضها عُريانُ من أثوابه ... قد خجل البائس من أصحابِه

تبصِرُه بعد انتشار الوردِ ... مثل الدبابيس بأيدي الْجُندِ

<<  <   >  >>