-في رأينا- هذا الجانب من جوانب حرفة الشعر، بل لعله يضيف إليه غموضًا وإبهامًا؛ فقد اضطرب النقاد في بحث هذه الوسيلة ووقفوا يسمونها سرقة وغصبًا ونحو ذلك من أسماء لا تعبر تعبيرًا واضحًا عن حقيقتها، ومن أجل ذلك كنت أوثر أن ننحي التسمية القديمة ونضع مكانها اسم "التحوير"؛ إذ يأخذ الشاعر معنى مسبوقًا أو مطروقًا فيديره في ذهنه، وما يزال به يحور فيه حتى يظهر في هيئة جديدة كأنها تخالف الهيئة القديمة.
وليس الشعر بدعًا في هذه الظاهرة، بل لعلها أكثر وضوحًا في فن الرسم؛ إذ يعالج الرسامون موضوعات مشتركة، كل يرسمها رسمه الخاص الذي يعبر عن أسلوبه بما يختاره من وضع، وما يراه من طريقة في التلوين والتظليل وحشد الأجزاء في الصورة، أو نشر ضباب وغموض فيها، بحيث نرى المنظر في لمحة بدون حشده في أي جزء أو أي تفصيل، وبحيث يكون لكل رسام طريقته الخاصة ونماذجه الخاصة. والشعراء يعالجون موضوعات مشتركة ويعالجون أيضًا خواطر مشتركة؛ ولكنهم حين يعالجون هذه الخواطر يعمدون إلى التحوير فيها تحويرًا يغير من هيئتها القديمة، ويعطيها وضعًا جديدًا ولونًا جديدًا، ويخطئ من يتلومهم في ذلك ما داموا يخرجون أفكارهم إخراجًا تظهر فيه شخصياتهم؛ فكل منهم له طريقته في التلوين والتظليل، وكل منهم له أوضاعه ونماذجه، مثلهم في ذلك مثل المرايا تختلف فيها صور الأشياء باختلاف أنواعها، فالشكل في المرآة المحدبة غيره في المستوية، والخاطرة عند شاعر غيرها عند زميله لاختلافهما في مرايا الذهن والخيال، أو لاختلافهما في الوضوح والغموض، إذ الخواطر كأصحابها قد ترى غامضة في شكل أشباح بعيدة، وقد تقترب وتتضح على درجات مختلفة.
ومن الواجب أن نعرف دائمًا أن العبرة في الفن بجمال الإخراج وجمال الأوضاع والهيئات، لا بالإبداع المطلق فقد يبعد تحقيقه، وما لنا نذهب بعيدًا. ورب فكرة موروثة تفوق فكرة مبتكرة، فالابتكار من حيث هو ليس صفة فنية بديعة، إنما البدع هو إخراج الفكرة في وضع جديد يلفت