الأنظار، بل ربما لم يظهر بدع الشاعر إلا حينما يتناول خاطرة موروثة أو مطروقة؛ فإذا هو يستخرج منها العجب لجودة إخراجها، وحسن عرضها.
وإذن ينبغي أن ننفي عن هذا الجانب من العمل الفني ما علق به من أوهام بعض النقاد الذين لم يتصوروه على حقيقته، وأن نقرر أنه جانب أساسي في الفن؛ إذ يعدل الشعراء إلى التحوير في المعاني القديمة تحويرًا يجعلنا ننسى الأصل. والأدب الغربي يصور هذا الجانب بأوضح مما يصوره الأدب العربي، فإن تعدد أنواع الشعر عند الغربيين من قصصي إلى غنائي وتمثيلي أتاح لهذا الجانب تنوعًا لم يُتِحْ له في الشعر العربي؛ إذ نرى الشارع القصصي يعرض أسطورة، ثم يأتي الشاعر الغنائي فيحولها إلى مقطوعة غنائية، ثم يأتي الشاعر التمثيلي فيحولها إلى رواية تمثيلية، وبذلك يأخذ الموضوع بواسطة هذا التحوير الفني شكلًا جديدًا في كل نوع من أنواع الفن، فالأسطورة توجد في الشعر القصصي عند هوميروس، ثم يأخذها سوفوكليس وأوريبيديس، ويحولانها إلى راوية تمثيلية كل يعرضها بطريقته الخاصة. ونفس اتساع الأنواع يعطي فرصة أوسع عندهم في هذا التحوير، فالشعر التمثيلي يتيح للشعراء من التحوير ما لا يتيحه الشعر الغنائي، ولذلك كنت ترى "أندروماك" عند "أوريبيديس" غيرها عند "راسين" فإذا عرضت لموضوع تناولته أنواع الشعر المختلفة هناك وجدت التحوير أوسع وأعظم. وانظر إلى إيفيجيني"IPHIGENIE" تجدها في أسطورة "أجا ممنون"، ثم يأخذها "أوريبيديس" فيحولها إلى رواية تمثيلية، ثم يتناولها "راسين" فيكتب فيها رواية أخرى، وكذلك يصنع صنيعه "جيته".
وهذا التحوير الواسع الذي نلاحظه عند الغربيين لم يوجد عند العرب؛ لأن شعرهم انحاز إلى نوع واحد هو الشعر الغنائي لا يتجاوزه، ولذلك ظل التحوير عندهم محدودًا في آماد ضيقة؛ فهو لا يظهر إلا في الصورة والفكرة المحصورة. على أن هذا التحوير الضيق يمكن أن يقسم إلى قسمين متمايزين: قسم تظهر فيه أصالة الشاعر، إذ يعدِّل في العناصر القديمة تعديلا يجعلنا نراها، وكأنما تغيرت وجوهها وصورها، وقسم آخر يحس الإنسان إزاءه كأن الشاعر لا يصنع