ويلمع أمام عينيه أمير عربي شيعي كان يحارب الروم حربًا عنيفة باعثًا في حاضرته حلب نهضة أدبية وعلمية رائعة، هو سيف الدولة، فتطمح نفسه إلى الانتظام في سلك شعرائه، ويلقاه سنة ٣٣٧ للهجرة فيجد عنده كل ما كان يأمله، فقد وفر له المال، كما وفر له كرامته؛ إذ رضي منه أن ينشده شعره وهو جالس توقيرًا له. ورأى فيه المتنبي رمز دولة العرب المفقودة؛ فقد كان عربيًّا من تغلب بين ولاة كثرتهم من الأعاجم، وكان في الوقت نفسه الدرع الذي يحمي البلاد العربية ضد دولة الروم الشرقية، وانتصر عليها انتصارات عظيمة في غير معركة حربية؛ فوجد فيه مثله الأعلى الذي طالما حلم به؛ كما وجد في حروبه وانتصاراته ضد الروم والبدو الموضوع الذي يشغل به قصائده، فلم تعد كلامًا يقال، وإنما أصبحت ملاحم رائعة. ومن الحق أنه كان يستشعر معاني العروبة إلى أقصى حد، وكل ذلك جعل سيف الدولة يملأ الفراغ الذي كان يحسه في داخله منذ مطالع حياته، ومن هنا تختفي في مدائحه حينئذ ثورته على الناس والزمان، وكأنما غاضت في نفسه.
وعاش نحو تسع سنوات في هذا الحلم يحظى بمنزلة رفيعة من سيف الدولة، وينعم بلقاء من جذبهم إليه من الفلاسفة والعلماء مثل الفارابي وابن جني، ولا نشك في أنه أفاد من محاضرات الأول في الفلسفة، وقد انعقدت صلة متينة بينه وبين الثاني فروى عنه ديوانه وشرحه شرحًا مشهورًا إعجابًا به وافتتانًا بفنه.
ومدائحه لسيف الدولة تعد في الذروة لا من شعره وحده، بل من الشعر العربي عامة؛ فقد صور فيها وقائعه وحروبه تصويرًا تشيع فيه البهجة بالنصر والاعتزاز بالعرب والعروبة، ونحس كأن نفسه لانت. وفرق بعيد بين هذه القصائد وقصائده السالفة بل قصيدته الأولى
التي أعدها للقاء سيف الدولة:
وفاؤكما كالرَّبع أشجاه طاسمه ... بأن تُسْعدا والدمعُ أشفاه ساجِمُهْ١
فإن فيها شيئًا من القلق النفسي، يصوره ما في هذا المطلع من تعقيد، ولعله أراد به أن يغرب على من في حاشية سيف الدولة أمثال ابن جني
١ أشجاه: أحزنه، طاسمه: دارسه. بأن تسعدا: بالمساعدة في البكاء. يقول لصاحبيه: ابكيا معي بدمع ساجم فإنه أشفى للغليل، كما أن الربع أشجى للمحب إذا درس.