وطبيعي أن لا يخلص فيه وهو يشعر في قرارة نفسه بالنفاق وأنه غير صادق فيما يقول. ومن أهم ما يميز المتنبي أنه لا يستطيع أن يخفي ما يضطرب في دخائل نفسه. ولم يكن يؤذيه في كافور أنه حبشي فحسب؛ بل كان يؤذيه منه أيضًا أنه كان يماطله فيما مناه به من بعض الولايات. وعلى نحو ما وجد عنده من مكر به كان هو الآخر يقابل مكره بمكر فني؛ فكان يسوق إليه كثيرًا من الأبيات الموجهة التي يمكن أن تحمل على الذم والمدح١. ووجد في مصر مولى آخر للإخشيد لم يكن حبشيًّا، وإنما كان روميًّا هو فاتك، وكان الإخشيد أقطعه الفيوم، حتى لا ينفس على كافور ما صيّره إليه من وصايته على ابنه وإدارته لشئون الدولة. ومدحه المتنبي دون أن يراه ليؤذي كافورًا، ولذلك نشعر في مديحه له بالفتور وأن الحيوية التي عهدناها تنقصه. وحاول أن يَفِدَ عليه، ولكن كافورًا منعه.
ويموت فاتك سنة ٣٥٠ فيرثيه رثاء مؤثرًا كيدًا لخصمه وكأنه يريد بهذا الرثاء أن ينتقم منه، ولا يلبث أن يهجو كافورًا ويفر في عيد الأضحى تحت جنح الليل.
وشعره في كافور مدحًا وهجاء يفيض بالثورة على الزمن والتشاؤم الشديد، وقد ظل يذكر فردوسه المفقود ويحن إلى سيف الدولة، وربما فكر في العودة إلى رحابه؛ غير أن كرامته أبت عليه أن يعود إليه كسيرًا مهزومًا؛ فاتجه إلى الكوفة مسقط رأسه، وتحول عنها إلى بغداد، وحاول الوزير المهلبي أن يجذبه إليه، ولكن من كانوا حوله من العلماء والأدباء تعرضوا له يُزْرون على شعره، فانقبض عنه، ولم يمدحه. وكان سيف الدولة كاتبه ليعود إليه، فوقع ذلك من نفسه موقعًا حسنًا وبلغه أن أخته الكبرى توفيت فرثاها رثاءً حارًّا. ويظهر أنه كان على وشك الرجوع؛ غير أنه رأى أن يذهب إلى فارس وعضد الدولة ووزيره ابن العميد، لعله يحظى عندهما بما فاته عند كافور، فذهب إليهما، وقدم لهما مدائحه، وأعطياه نائلًا غمرًا، ونراه يؤثر العودة إلى العراق، ولعله كان ينوي الذهاب إلى سيف الدولة؛ غير أنه لا يصل إلى دير العاقول بجوار النهروان حتى يخرج عليه بعض قطاع الطرق، ويقاتلهم، ويُقتل هو وابنه وغلامه مفلح في أواخر رمضان سنة ٣٥٤.