للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وشعره منذ خروجه من لدن سيف الدولة شركه بين وبين ممدوحيه؛ فهو يتغنى فيه بنفسه وبهمومه ونوائب الزمن وأحداثه وهو فيها جميعًا يعرف كيف يروغ عن الموضوع، فيتحدث عن تجاربه وشكواه أو يصف شعب بوّان.

وقد يبالغ على نحو ما نجد في مديحه لعضد الدولة، ولكن لا نحس عنده صدقًا ولا عاطفة، وبذلك تظل قصائده في سيف الدولة هي القطع المتوهجة من شعره.

وواضح مما قدمنا أن شعر المتنبي يتطابق مع حياته، ونراه فيه يمثل ثقافته، وهي ثقافة واسعة يمتزج فيها التشيع والتصوف والفلسفة، وأتيح له ذلك كما أسلفنا منذ نشأته؛ إذ نشأ في الكوفة وتربى في مدرسة للعلويين ودرس الفلسفة على أبي الفضل الكوفي والتصوف على الأوارجي. ويظهر أنه كان مطلعًا على كثير من النِّحل والعقائد كما يدل على ذلك مثل قوله:

تمتَّع من سهادٍ أو رقادٍ ... ولا تأمل كَرىً تحت الرِّجامِ

فإن لثالثِ الحالين معنىً ... سوى معنى انتباهك والمنام٢

وهو يشير بثالث الحالين إلى التناسخ الذي لا يقع فيه -كما يقول من يؤمنون به- موت ولا نوم، وكما كان يعرف التناسخ وما إليه من مذاهب هندية دهرية كان يعرف المجوسية ومعتقداتها، كقوله في هجاء ابن كيغلغ:

يا أختَ معتنقِ الفوارسِ في الوغى ... لأخوك ثَمَّ أرق منك وأرحمُ

يرنو إليك مع العفافِ وعنده ... أن المجوسَ تصيبُ فيما تحكمُ

يقول العُكْبَرِيّ: على هذا البيت بقوله: "إن المجوس يحلون تزوج الأخوات فأخوها من حسنها يرى أن المجوس أصابوا في حكمهم٣. ويقول في بعض ممدوحيه:

وكم لظلامِ الليل عندي من يدٍ ... تخبِّر أن المناويةَ تكذبُ

ويعلق العُكْبَري على هذا البيت بقوله: "المانوية قوم ينسبون إلى ماني وكان يقول الخير من النور والشر من الظلمة فرد عليه المتنبي؛ فقال: كم نعمة


١ الرجام: القبور.
٢ يريد بثالث الحالين: الموت.
٣ شرح العُكْبَري على المتنبي "طبعة الحلبي" ٤/ ١٢٢.

<<  <   >  >>