للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أفكار المتصوفة ومعانيهم؛ إنما يأتي من استعارته لطريقتهم في التعبير وما يتصل بها من ظروفها وأحوالها الخاصة، فإن المتنبي حين عدل بشعره إلى العبارة الصوفية كان قد أسلم هذا الشعر إلى صعوبات في التركيب، وهي صعوبات كانت تميز أساليب المتصوفة في هذه العصور؛ لأن اللغة لم تكن قد اتسعت بعد لأداء أفكارهم ومعانيهم.

ومن أجل ذلك كنا نجد عند المتنبي كل ما يميز تعبير المتصوفة من انحرافات والتواءات كأن يكثر من الضمائر أو من أسماء الإشارة أو من حروف النداء أو من التصغير فيبعث في التعبير حالًا غريبة من التعقيد. وقد يكون من الغريب أن نربط بين هذه الأشياء والتصوف؛ ولكنها الحقيقة الواقعة، وقد لاحظها القدماء في بعض الأبيات: لاحظها صاحب اليتيمة١ في قوله يصف فرسًا:

وتسعدني في غمرةٍ بعد غمرةٍ ... سبوحٌ لها منها عليها شواهدُ٢

وقوله:

ولولا أنني في غير نومٍ ... لبِتُّ أظنني منِّي خيالا

وقوله:

ولكنك الدُّنيا إليَّ حبيبةً ... فما عنك لي إلا إليك ذهابُ

وواضح ما في هذه الأبيات من كثرة الضمائر، وهي كثرة تأتي في أساليب المتصوفة لاعتمادهم في أشعارهم على فكرة الحلول وما يتفرع عنها من الملابسة والتجريد، حتى يستطيع الشاعر أن يستخرج من الفرس شواهد تشهد لها عليها، وحتى يستطيع أن يتصور من نفسه خيالًا لحقيقته، وحتى يملأ صاحبه عليه الدنيا، فما له ذهاب ولا منصرف إلا إليه. وهذه الضمائر التي نلاحظها في تلك الأبيات نلاحظ مثلها أسماء للإشارة كثيرة في أبيات أخرى، كقوله في قصيدة الأوراجي السابقة:


١ اليتيمة ١/ ١٤٥.
٢ الغمرة: الشدة. السبوح: الفرس شديدة الجري.

<<  <   >  >>