للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لو لم تكنْ من ذا الوَرَى اللَّذْ منك هُوْ ... عقمتْ بمولد نسلها حواءُ

فقد جاء في البيت: بذا واللذ، كما جاء: بهو، وأخرج التعبير على هذا النحو الملتف؛ لأنه يريد أن يعبر عن فكرة صوفية، هي فكرة الحلول؛ فهو يريد أن يقول: إن ممدوحه من الورى والورى منه، كما يقول أصحاب الحلول في الذات العليَّة، ومن ذلك قوله في ممدوح آخر:

وبه يُضَنُّ على البريةِ لا بها ... وعليهِ منها لا عليها يُوسَى١

فهو يقارن بين ممدوحه وبين الورى ويتصوره تصور الصوفية لله، وهو لذلك يقع في الضمائر الكثيرة، كما يقع في أسماء الإشارة هي الأخرى على نحو ما نرى في مثل قوله:

يا أيها الملكُ المصفَّى جوهرًا ... من ذاتِ ذي الملكوت أسْمَى من سما

فليس من شك أن "ذات ذي" هنا غريبة، ولكننا ننسى؛ فالمتنبي يتصنع لتعبيرات صوفية. ولعل القارئ لاحظ هذا النداء الذي بدأ به البيت وقد أكثر منه في شعره كثرة مفرطة كقوله:

هذى برزت لنا فهجت رَسِيسًا ... ثم انثنيتِ وما شفيتِ نَسِيسًا٢

وهو بيت يشعر الإنسان إزاءه كأنه صوفي لهذا البروز، ثم هذا الانثناء؛ ولكن الغريب فيه هو هذا النداء باسم الإشارة، ثم ما أغرب به على قارئه من حذف حرف النداء، واقرأ هذا البيت:

إِذا عَذَلوا فيها أَجَبتُ بِأَنَّةٍ ... حُبَيِّبَتا قَلبًا فُؤادا هَيا جُمْلُ

فإنك ترى اختلاطًا في الشطر الثاني، وليس لهذا الاختلاط من مصدر سوى أن المتنبي أكثر من النداء إذ أصل التعبير: يا حبيبتي يا قلبي يا فؤادي يا جمل. وهو إكثار أوقعه فيه تصنعه لأساليب المتصوفة التي تعتمد على ألفاظ الكشف والمشاهدة، وبذلك تقترب من الأساليب الشفوية، ولعلنا بذلك نستطيع أن نعلل لكثرة


١ يوسي: من أسى عليه إذا حزن.
٢ الرسيس: مس الحمى، أراد ما ثبت من الهوى. النسيس: بقية النفس

<<  <   >  >>