للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

المبالغة في شعره ولم يقف بها عند موضوع خاص، فنحن نراها تتسرب من المدح إلى الموضوعات الأخرى من غزل وغير غزل، وكأنها لون جديد يريد أن يوشِّي به شعره، وأن يطرز به قصائده؛ بل إنه ليبدي إزاء استعماله نوعًا من الإصرار الحماسي، حتى ليحس الإنسان عنده في كثير من الأحيان بضرب من السقوط؛ فإن الشعر إذا أفرط فيه الشاعر إفراطًا شديدًا إلى درجة الغلو والمغالاة سقط إلى مستوى دون مستوى طبيعته الحقيقية، وانظر إلى قوله:

لَو كانَ عِلمُكَ بِالإِلَهِ مُقَسَّمًا ... في الناسِ ما بَعَثَ الإِلَهُ رَسولا

أو كان لفظُك فيهمُ ما أنزل الـ ... ـتوارةَ والفرقانَ والإنجيلا

فإن الإنسان يحس كأن المعاني أعيته فذهب إلى استصغار أمور الأنبياء، وكان يستطيع أن يبلغ من وصف ممدوحه ما يريد، دون أن يكلف نفسه هذا العناء من المقارنة والمفاضلة بينه وبين الأنبياء، وليس من شك في أن الشعر حين يخرج عن حدود الاعتدال والقصد في التفكير لا يكون فيه وجدان إلا وجدانًا صناعيًّا ما يزال المتنبي يتعب في إخراجه وتصويره، وحقًا ما يقوله ابن الرومي.

وإذا امرئٍ مدحَ امرأً لنوالِهِ ... وأطالَ فيهِ فقد أرادَ هِجَاءَهُ

لو لم يقدِّر فيه بُعْدَ المُسْتقَى ... عند الورودِ لَمَا أطال رِشَاءَهُ

والمتنبي لم يكن يطيل قصائده؛ ولكنه كان يطيل أفكاره طولًا من نوع آخر، هو هذه المبالغة التي تستقر دائمًا في صياغة شعره وتستوعب مجهودًا واسعًا في التفكير والتصوير، وهو مجهود شاق؛ غير أنه لا يرضي النقاد؛ إذ يكشف لهم سر صاحبه، وأنه يرْكَبُ طرقًا ملتوية من التصنع في فنه، ولكننا ننسى فنحن في القرن الرابع قرن التصنع، ومن الخطأ أن نطلب إلى شاعر في هذا القرن أن يخرج على ذوق معاصريه وما كان يعجبهم من الإغراب في التعبير والأفكار، وكأنما لم يبقَ لهم إلا أن يتصنعوا هذه الوجوه من التصنع لمبالغات شاذة، أو عبارات مذهبية أو ثقافية منحرفة، وهي حال يمكن أن تعد تفسيرًا لما أصاب الشعر -في هذه العصور- من جمود، أي يحس الشعراء بأنهم يبدئون ويعيدون في

<<  <   >  >>