للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

عبارات المتصوفة ويصور أساليبهم -في أثناء القرن الرابع- هو المتنبي؛ لأنه كان يحكي بعباراته كل صيغهم، ويصور في أساليبه كل صورهم وشاراتهم، حتى ليحار الباحث ويظن أن المتنبي كان صوفيًّا، وهو ظن واهم؛ فلو أنه كان صوفيًّا ما بلغ هذا المبلغ من التقليد والمحاكاة والتمثيل، إنما كان متصنعًا لهذا التصوف، وكان لا يترك مظهرًا من مظاهره ولا إيماءة من إيماءاته إلا ويسلكها في عباراته ويجمعها في أساليبه.

على أن هذا الالتجاء لأساليب المتصوفة وما سبقه من التجائه لأساليب المتشيعة بعث فيها حالًا من الغلو والمبالغة في مدح أصحابه؛ حتى ليخيل إلى الإنسان -في كثير من الأحيان- أنه يقرأ مدحًا لإمام من أئمة المتشيعة أو المتصوفة؛ إذ كان يذهب مذهبهم في المبالغة، فيخرج إلى ضروب غريبة من الغلو والإفراط، واقرأ هذه الأبيات التي يقولها في بعض ممدوحيه:

لَو كانَ ذو القَرنَينِ أَعمَلَ رَأيَهُ ... لَمّا أَتى الظُّلُماتِ صِرنَ شُموسا

أَو كانَ صادَفَ رَأسَ عازَرَ سَيفُهُ ... في يَومِ مَعرَكَةٍ لَأَعيا عيسى

أَو كانَ لُجُّ البَحرِ مِثلَ يَمينِهِ ... ما انشَقَّ حَتّى جازَ فيهِ موسى

أَو كانَ لِلنيرانِ ضَوءُ جَبينِهِ ... عُبِدَت فَصارَ العالَمونَ مَجُوسا

فإننا إن لم نعرف من قيلت فيه هذه الأبيات رجحنا أنه بديل من أبدال الصوفية أو نقيب من نقباء الشيعة. وحقًا أن هذه المبالغة أخذت تقل مضاعفاتها كلما تقدم به الزمن؛ ولكنها استمرت معه حتى نراه يقول لعضد الدولة:

النَّاسُ كالعابدين آلهةً ... وعبدُهُ كالموحِّدِ الله

وهذه المبالغة الغريبة التي نجدها عند المتنبي يمكن أن يعلل لها من جانب آخر، هو ما شاع في بيئة الأدباء والنقاد من الدعوة للمبالغة والغلو كما نرى عند قدامة١ غير أنه يلاحظ أن شاعرًا لم يبلغ من ذلك ما بلغه المتنبي؛ إذ كانت تُذْكي هذه الروح عنده بواعث من التشيع والتصوف. وعمم المتنبي هذه


١ نقد الشعر "طبع القاهرة" ص٣٥.

<<  <   >  >>