وغيرهم من متصوفة هذا القرن، وقد يكون من الغريب أن نذهب هذا المذهب؛ بينما نعترف بأن المتنبي لم يكن متصوفًا ولكنها الحقيقة الواقعة، فإن من يحاكون شيئًايبلغون في محاكاته ما قد يقصر عنه أصحاب هذا الشيء أنفسهم، ولذلك كان الممثل يضيف طعمًا جديدًا إلى "الدراما" التي يمثلها، ويعطينا متعة غير المتعة التي نحسها حين قراءتها منفردين؛ لأنه يصور كل ما يمكن من حركات تصحب العبارات تصويرًا يؤثر في نفوسنا تأثيرًا بعيدًا.
والمتنبي لم يكن متصوفًا؛ إنما كان ممثلًا للتصوف يقترح عباراته في الشعر، وما يزال يطلب جميع شاراتها وحركاتها، وما يمكن أن تخرج فيه من ظروف مختلفة تكثر فيها الضمائر أو تكثر فيها أدوات النداء أو تكثر أسماء الإشارة، وربما التقط في أثناء ذلك تعبيرًا فيه تصغير، فأحس أن هذه سمة صوفية، وأخذ يقلدها ويعممها في تراكيبه وعباراته، وبذلك جمع في أساليبه كل ما يمكن من خصائص التعبير الصوفي وهيئاته، وبلغ من تمثيله ما لم يبلغه أصحابه الأصليون.
يقول الجاحظ:"إنا نجد الحاكية من الناس يحكي ألفاظ سكان اليمن مع مخارج كلامهم لا يغادر من ذلك شيئًا، وكذلك تكون حكايته للخرساني والأهوازي والزنجي والسندي والحبشي وغير ذلك، نعم حتى تجده كأنه أطبع منهم؛ فأما إذا حكى كلام الفأفاء فكأنما قد جُمعت كل طُرْفة في كل فأفاء في الأرض في لسان واحد. ولقد كان أبو دَبّوبة الزنجي مولى آل زياد يقف بباب الكرخ بحضرة المكارين فينهق فلا يبقى حمار مريض ولا هرم حسير ولا متعب بَهير إلا نهق، وقبل ذلك تسمع نهيق الحمار على الحقيقة فلا تنبعث لذلك ولا يتحرك منها متحرك، حتى كان أبو دَبُّوبة يحركه، وكأنه قد جمع جميع الصور التي تجمع نهيق الحمار فجعلها في نهيق واحد، وكذلك في نباح الكلاب"١.
وعلى هذا النحو الذي نراه عند أبي دبوبة كان المتنبي يحكي أساليب المتصوفة فيجمع كل الطرف والصور التي تمثل هذه الأساليب، وكان يبلغ من ذلك ما لا يبلغه المتصوفة من أنفسهم؛ بحيث لا نرانا نبعد إذا قلنا إن أهم شاعر يمثل