للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أَذا الغُصنُ أَم ذا الدعصِ أَم أَنتِ فِتنَةٌ ... وَذَيّا الَّذي قَبَّلتُهُ البَرقُ أَم ثَغْرُ

وعلى هذا النمط ما يزال يكثر من التصغير في ديوانه؛ ولكن كيف نربط بين التصغير وأسلوب المتصوفة؟ إن الربط بينهما يكاد يكون غير واضح، وقد يكون أقرب من ذلك ما علل به العقاد هذه الظاهرة، إذا ذهب إلى أنها نتيجة غرور المتنبي وازدرائه للأشياء أو هي متصلة بمبالغته فهو يبالغ للتحقير١؛ غير أن هذا التعليل لا يثبت في نفس الظاهرة؛ إذ نرى المتنبي لا يقف بتصغيره عند التحقير؛ بل يذهب به إلى التعظيم كما يذهب به إلى التحقير، على نحو ما رأينا في تصغيره لحبيبته ولليلته في البيتين الأولين.

والحق أن تعليل العقاد لا يطَّرِد في أمثلة الظاهرة، ولذلك كان لا يَصْلُح تفسيرًا لها، وكنا نرى أن من الأقرب أن نعلل لها بتصنع المتنبي لأساليب المتصوفة؛ إذ نراها تقترن بظواهر أخرى من شارات عباراتهم التي اقترضها منهم: كظاهرة أسماء الإشارة في البيت الأخير. ونحن نجد شاعرًا صوفيًّا متأخرًا يصطنع هذا الأسلوب من التصغير في شعره وهو ابن الفارض، وكان يكثر منه كثرة مفرطة كما نرى في قصيدته اليائية٢ التي يقول فيها:

يا أُهَيْلَ الوُدِّ أنّى تُنْكِرُو ... نيَ كَهْلًا بعدَ عِرفاني فُتَيّ

واستمر يصغر على هذا النحو الذي نراه في كلمة: فتي، وقد يبدو أن هذه مقدمة لا تسوّغ نتيجتها؛ إذ المعقول أن يكون ابن الفارض تأثر أسلوب المتنبي؛ لأنهم متأخر عنه، على أن ذلك هو ما نريد أن نثبته؛ فقد اعتبر أسلوب المتنبي أسلوبًا صوفيًّا وأخذ يقلده المتصوفة وكأنهم أحسوا أن التصغير إحدى شارات هذا الأسلوب ومميزاته.

ولعل القارئ يعجب إذا قررنا أن المتنبي هو خير شاعر يصور لنا أساليب المتصوفة في القرن الرابع، وأنه يبلغ من ذلك ما لا يبلغه الحلّاج والشِّبلي والْجُنَيد


١ مطالعات في الكتب والحياة ص١٢٤.
٢ انظر: ديوان ابن الفارض "طبع المطبعة الخيرية" ص٢٤.

<<  <   >  >>