وتتفاعل معه؛ بل هي تحوله عن طبيعته الفلسفية إلى طبيعة فنية ما يزال الشاعر يستخرج منها ألوانًا تحيِّر وتعجب.
وهذا الاتجاه في البحث هو الذي نريد أن نعرف على ضوء التصنع الفلسفي عند المتنبي وإلى أي حد استطاع الفكر العربي -في القرن الرابع- أن يمتزج بالفكر اليوناني، ومن يرى هذا الجهد الذي كان يقوم به المتنبي من نقل الحكم اليونانية إلى الشعر العربي لا يشك في أن هذا الشعر أخذ يتأثر بالصورة اليونانية، ولسنا نقصد صورة النحو اليوناني أو البلاغة اليونانية أو الأخيلة اليونانية، إنما نقصد صورة التفكير اليوناني؛ فقد نفذ إلى الشعر وتشبث كثير من الشعراء به. على أنه يحسن بنا أن لا نبالغ، فإن المتنبي يرينا حقًّا قابلية العقلية العربية للتفكير اليوناني، ولكنها قابلية من نوع آخر مغاير للنوع الذي رأيناه عند أبي تمام، قابلية ليس فيها البهجة التي لاحظناها عنده في نوافر الأضداد إنما هي قابلية من طراز آخر، قابلية معقدة -إن صح هذا التعبير- فالفلسفة لا تتحول إلى بدع من الفن؛ إنما تؤثر تأثيرًا قاتِمًا في الصياغة، ويمكن أن نلخص هذا التأثير في كلمة "القوالب الفلسفية" فقد أخذ الشعراء يقترضون هذه القوالب، وهذا أكثر ما عندهم من تجديد فلسفي في الشعر. وهو تجديد غريب لا ينوع في التفكير الفني إنما ينوع فقط في أساليبه ويصيبها بهذا التعقيد الذي تعرف به القوالب الفلسفية وما يتبعه من اللف والدوران وتداخل الأفكار تداخلا لا عهد للغة العربية به قبل المتنبي إلا في القليل النادر، أما هو فوسَّع هذا الجانب وحرص عليه حرصًا شديدًا؛ لأنه كان يودعه جانبًا من سر تفوقه وسر تصنعه؛ إذ كان يحتال احتيالًا شديدًا على شارات التعبير الفلسفي وسماته يدخلها في نماذجه، كما نرى في مثل قوله:
الجيشُ جيشُك غير أنك جيشه ... في قلبِِهِ ويمينه وشمالِهِ
وليس في البيت غرابة ولا تعقيد، ولذلك يبدو يسيرًا سهل الفهم، ولكن إذا أمعنا النظر وجدنا فيه شيئًا يشبه أن يكون تعقيدًا؛ إذ يجعل المتنبي ممدوحه