جيشًا، ويجعل الجيش جيشه، وفي الوقت نفسه يجعله جيش الجيش؛ فهو جيش دائر على نفسه، أو هي فكرة فيها دور -كما يقول أصحاب الفلسفة- وليس من شك في أن المتنبي عمد إليها عمدًا وتصنع لها تصنعًا، وما الفرق بينه وبين غيره من شعراء عصره ممن لم يتثقفوا ثقافة فلسفية إن لم يأت بمثل هذه العبارات المتداخلة؟ وانظر إلى قوله:
فتىً يشتهي طول البلادِ ووقته ... تضيق به أوقاتُهُ والمقاصدُ
فإنك تراه لا يزال يتعمَّل للأسلوب الفلسفي في تفكيره وصياغته؛ وإلا فما هذا الوقت الذي تضيق به أوقات ممدوحه؟ إنه وقت غريب لعله أشد غرابة من الجيش السابق الذي يدور على نفسه، فقد جعل المتنبي الأوقات تضيق به، أو بعبارة أخرى ما زال يتصنع حتى جعل الجزء أوسع من الكل؛ فالأوقات تضيق بالوقت ضيقًا غريبًا، ولكن ما هي ميزة المتنبي إن لم يغرب على الناس بمثل هذه العبارات التي قد يحسون فيها خللًا؛ ولكنه خلل محبوب في رأيه؛ لأنه خلل فلسفي، ما يزال به حتى يشوش على الناس أفكارهم، وحتى يحدث من الارتباك والاضطراب بين المثقفين ما يستطيع أن يثبت به مهارته وتفوقه، فإذا هو يخرج هذا الجيش الدائر على نفسه، وإذا هو يحيل الجزء أكبر من الكل، حتى يجعل لنفسه من شعره أبواقًا وطبولًا، أو بوقات وطبولًا على حد تعبيره، تعلن عن براعته وحذقه وإجادته، وانظر إلى قوله:
فإنك تحس بلعب التعبير الفلسفي؛ فالزمان يقي من الزمان وقاية غير مفهومة، والحِمام يفدي من الحِمام فداء غير مفهوم أيضًا، ولكنها الفلسفة التي تعلق بها المتنبي ما تزال تخرج له من الزمان زمانًا يماثله ومن الحمام حمامًا يشاكله، وعلى هذا النحو نراه يقول بيته: