فالنقم على نوعين والنعم على نوعين، وكل شيء يمكن أن يستخرج منه شيء آخر يماثله، ويتحد معه، فيقوم دونه، أو يصبُّ عليه، أو يركِّبه ركوبًا غريبًا. وعلى هذا النمط ما تزال أساليبه تتشابك وتتداخل تداخلًا غير مألوف، تداخلًا يوقعه في مثل هذه الأساليب المنحرفة، أو في مثل قوله:
إِلى كَم ذا التَخَلُّفُ وَالتَّواني ... وَكَم هَذا التَّمادي في التَّمادي
فالتمادي يتداخل في التمادي هذا التداخل الغريب حتى يقلد المتنبي الفلاسفة في أساليبهم الملتوية، وما الفرق بين الشعر والفلسفة؟ لئن كانت الفلسفة طرافة أو كان فيها فنون من الطرافة، فإن من الواجب أن تدخل هذه الفنون إلى دوائر الشعر؛ غير أننا نلاحظ أن المتنبي إنما نظر إلى هذه الفنون من ظاهرها، فجاء يستوعب في شعره صيغها وقوالبها، ولم يستطع استخدامها استخدامًا فنيًّا على نحو ما رأينا عند أبي تمام؛ بل لقد كان يفهم هذا الاستخدام في حدود أخرى، هي أن ينقل التعبير الفلسفي إلى قصائده ونماذجه فإذا الجيش يدور هذا الدوران الذي لا تألفه العقول البسيطة، بل لا بد له من عقل متفلسف حتى يفهم فكرة الدور وأنه جيش دائر في هذه الحلقة الفلسفية التي كان يعجب بها المتنبي-فيم يظهر- إعجابًا شديدًا. وعلى هذا النحو تضيق الأوقات بالوقت، بل ما تزال الأفكار تتوالد، فكل فكرة لها خيالها، بل لقد كان يرى خيال خيالها على حد قوله:
فهو يحفظ العهد ويذكر حبيبه دائمًا، وما يزال خياله يَفِد عليه حتى إذا نام رأى خيال هذا الخيال، بل إنه ليرى خيال هذا الخيال الثاني في يقظته، وبخاصة خيال خيالِ أفكاره الذي ما يزال يلح عليه حتى يأتي له بهذه العبارات الفلسفية.