فلعله كان يداعب به من حوله من الأدباء والنقاد، أما حقيقة الأمر فإنه هو الذي كان يؤرقه السهر في تجويدها، وما كان مثله لينام وهو يحلم بتعبير فلسفي، يحقق له ما لا يبلغ الزمن من نفسه على حدِّ تعبيره:
أُريدُ مِن زَمَني ذا أَن يُبَلِّغَني ... ما لَيسَ يَبلُغُهُ مِن نَفسِهِ الزَمَنُ
فهو يشعر شعورًا واضحًا بأن الأفكار قد تشعل صاحبها، ومن يدري فربما مرت به لحظة خيل إليه فيه أنه يشتعل بهذا الثقاب من الفلسفة التي أشعلت كل شيء في شعره. وليس من شك في أنه ثقاب محبب إلى نفوسنا؛ غير أن المتنبي لم يحدث به ولا بنيرانه طرافة واسعة في شعره كما رأينا عند أبي تمام.
وكأني بالمتنبي يلفتنا إلى شيء مهم في العقلية العربية وقابليتها للتفكير اليوناني في أثناء القرن الرابع؛ فإنها تخلفت في كثير من جوانبها عن هذا التفكير وبخاصة في هذا الجانب الفني من الشعر الذي نقرأه عند المتنبي وأضرابه؛ إذ نرى الفلسفة لا تحدث طرافة ولا تنوعًا في الأفكار إلا آمادًا ضيقة، إنما ينصب تأثيرها على جانب شكلي، جانب العبارات والأساليب، حتى ليحس الإنسان بأن الدفعة الهنيئة الطليقة التي مرت بنا عند أبي تمام حيث كانت الفلسفة تستخدم استخدامًا فنيًّا خاصًّا كأنها لون زاهٍ هذه الدفعة يصيبها غير قليل من الجمود والركود، وكأن الشعراء لا يتعمقون التفكير اليوناني، وكأن هذا التفكير لا يتعمق عقولهم،