فلا نراه يتحول عندهم إلى بدع وطرافة في التفكير، وأيضًا فنحن لا نراه يحدث تنوعًا واسعًا في الخواطر والمعاني، وكأن الفلسفة اليونانية تنحرف عن التفكير الفني، أو كأنها لا تمتزج بهذا التفكير امتزاجًا من شأنه أن يغير صورته وأوضاعه؛ وإنما أكثر ما تحدثه في هذا الجانب ينصب على تأثير شكلي في القوالب والعبارات، كقول المتنبي:
فالحياء يمنع البكاء والبكاء يمنع الحياء، وهذا كل ما يأتي به المتنبي من طرافة في التفكير يجلبها من الفلسفة؛ ولكن هذه الطرافة ليست شيئًا أكثر من اللف والدوران في التعبير.
وعلى هذا النمط نرى المتنبي تنغمس عباراته في أصباغ الفلسفة، ولكنه انغماس شكلي إذ يحاول أن يحقق لنفسه أوصاف قوالبها وخواص تراكيبها، أما بعد ذلك فإنها لا تتفاعل مع تفكيره، ولا تنقله من حيز إلى حيز، أو من عالم إلى عالم. بل ما يزال متصلًا في أفكاره ومعانيه بالماضي، لا يستطيع فصم علاقته به. وإن الإنسان ليكاد يؤمن بأن التفكير اليوناني لم يحدث رجفة واسعة عند المتنبي وأضرابه ممن نحس عندهم بأن الفنانين ما يزالون يفكرون تفكيرًا أقرب إلى الأسلوب القديم.
وحقًّا أن الفلسفة اليونانية ترجمت واستوعبها العرب، وكان منهم متفلسفة، ولكن يحسن دائمًا أن نميز بين هذه الموجة والتأثر العام في التفكير الفني؛ إذ نشعر بأن الفلسفة تختلط بهذا التفكير، ولكنها قلما تمتزج به أو تتحد معه، بل يستمر بينهما خطوط فاصلة؛ إلا أن تجلب بعض شاراتها وسماتها، كما نرى عند المتنبي. ولكنها لا تتغلغل إلى باطن الشعر وباطن صياغته إلا قليلًا، وحتى المعري مع أنه نقل التفكير الوجداني إلى تفكير يشبه التفكير الفلسفي لم يستطع أن يحافظ على "الصياغة الباطنة" للأسلوب الفلسفي، بل لقد ضلت منه في الطريق. ولعلنا لا نخطئ إذا قلنا إن مياه التفكير اليوناني دخلت النهر العربي؛ ولكنها استمرت في كثير من جوانبه تجرى مع مياهه جنبًا إلى جنب وقلما اختلطت بها. قد تختلط في بعض المناطق، ولكنها سرعان ما تعود إلى الانفصال.