للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فينصب تحترق من غير "أن". ويقول ابن الأنباري: "ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز أن يستعمل ما أفعله في التعجب من البياض والسواد خاصة من بين سائر الألوان نحو أن تقول: هذا الثوب ما أبيضه، وهذا الشعر ما أسوده؛ وذهب البصريون إلى أن ذلك لا يجوز فيهما كغيرهما من سائر الألوان"١، ومعروف أن حكم التفضيل كالتعجب في هذا الباب، ويقول المتنبي:

ابْعَدْ بَعِدتَ بَياضًا لا بَياضَ لَهُ ... لَأَنتَ أَسوَدُ في عَيني مِنَ الظُلَمِ

وعلى هذا النحو يستطيع الباحث أن يجد كثيرًا من الصيغ الكوفية الشاذة في ديوان المتنبي؛ بل إنه ليجد في هذا الديوان شذوذًا أوسع من شذوذ النحو الكوفي حتى لكأنه مستودع للتراكيب الشاذة في اللغة؛ إذ كان المتنبي يطلب كل غريبة أو شاذة في التعبير، من ذلك أن نراه يتصنع لاستخدام لغة "أكلوني البراغيث" في مثل قوله:

نَفديكَ مِن سَيلٍ إِذا سُئِلَ النَّدى ... هَولٍ إِذا اختَلَطا دَمٌ وَمَسيحُ

فإنه أتى بألف الاثنين مع ذكر الفاعل. ومن ذلك أن يرى بعض العرب لا يحرصون على التفريق بين المذكر والمؤنث في الأفعال والمشتقات٣، فيقلدهم في هذا الصنيع كقوله:

مُخلىً لَهُ المَرجُ مَنصوبًا بِصارِخَةٍ ... لَهُ المَنابِرُ مَشهودًا بِها الْجُمَعُ

إذ كان القياس أن يقول منصوبة ومشهودة؛ ولكنه عدل إلى التذكير وهو يصنع ذلك كثيرًا. ومن ذلك أن يجزم المضارع مع حذف "لام" الأمر في قوله:

جَزى عَرَبًا أَمسَت بِبُلبَيسَ رَبُّها ... بِمَسْعَاتِها تَقْرَر بِذاكَ عُيونُها

ومن ذلك أن يستعمل ليس استعمال الحروف كقوله:

بَقائي شَاءَ لَيسَ هُمُ ارتِحالًا ... وَحُسنَ الصَبرِ زَمّوا لا الجِمالا

وليس من شك أن المتنبي كان يعمد إلى هذه الشواذ عمدًا، يقول ابن جني: "إن كان في بعض ألفاظه تعسف عن القصد في صناعة الإعراب من


١ الإنصاف ص٦٨.
٢ المسيح: العرق يمسح عن الجسد. يقول: إن ممدوحه عند العطاء سيل لسائليه وفي الحرب هول لأعدائه.
٣ الإنصاف ص٣٢٣.

<<  <   >  >>