للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

التمسك بأهداف شاذ أو حَمْل على نادر فعن غير جهل كان منه ولا قصور عن اختيار الوجه الأعرف له"١. ولكن ابن جني يترك الظاهرة من غير تعليل، وتعليلها ما كررناه كثيرًا من أن المتنبي كان يتصنع لمثل هذه الأشياء في شعره، حتى يستحوذ على إعجاب المثقفين من حوله.

ولعل القارئ لاحظ أن هذه هي المرة الأولى التي نصادف فيها شاعرًا عباسيًّا يتصنع في شعره تصنعًا نحويًّا؛ فمن قبله لم يكن الشعراء يكلفون أنفسهم الوقوف على المذاهب النحوية ومعرفة ما بينها من خلاف، ولم يكونوا يتعمقون دراسة النحو على هذه الصورة التي رأيناها عند المتنبي، وإن هم تعمقوا في ذلك فإنهم ما كانوا يتصنعون له في شعرهم، أما المتنبي فإنه كان يحرص على التصنع له، حتى يستولي على أذهان اللغويين والنحويين فإذا هو يفجؤهم بمثل قوله السابق:

نَحنُ مَن ضايَقَ الزَمانُ لَهُ فيـ ... كَ وَخانَتهُ قُربَكَ الأَيّامُ

وإذا هم مضطربون في التأويل والتفسير؛ فكيف عدّى الفعل "ضايق" باللام، وهو متعدٍ من غير لام، وما هذا الارتباك الغريب في تعبيره الذي يحسه الإنسان ولا يستطيع وصفه؟ إنه الارتباك يريده المتنبي إرادة؛ فإذا هو يفصل الفعل من المفعول ويعدِّيه باللام حتى يحدث ما يريد من خلل وتشويش، وأصل التعبير: نحن من ضايقه الزمان فيك. وكأن المتنبي لا يرى طرافة في تعبيره فيعمد إلى هذه الطرافة النحوية، ويخرجه هذا الإخراج المشوش حتى يحدث له الضجيج النحوي الذي كان يريده.


١ "ذكرى أبي الطيب" ص٣٥٨.

<<  <   >  >>