القرنين الثاني والثالث يصفُّون شعرهم تصفية شديدة حتى يحدثوا به نوعًا من الاتساع في التعبير، وحتى يشاكلوا بين الأصوات ومعانيها مشاكلة دقيقة، واتخذنا البحتري رمزًا لهذه العناية البالغة بتجاوب النبرات في الشعر، وكيف أنه أحدث في الموسيقى مرونة غريبة بملاءمته الدقيقة بين الكلمات والحركات والسكنات ملاءمة نُظِّمت في نسق فني بديع؛ ولكنا لا نصل إلى القرن الرابع حتى تحتبس هذه الموسيقى الإيقاعية للشعر في صناديق من التعقيدات في القافية على نحو ما سنرى عند المعري، أو في النغمات الداخلية نفسها كما نرى الآن عند المتنبي؛ إذ اعتمد على هذه الشواذ النحوية يحدث بها ما يريد من الخلل والتشويش في موسيقى الشعر وإيقاعاته.
ولعل في هذا ما يكشف مرة أخرى عما أصاب الفن العربي في هذه العصور من تعقيدات غريبة؛ فقد رأينا الشعراء في الفصل السابق يعقدون في الألوان القديمة، ولكنهم لم يستطيعوا أن يضيفوا جديدًا، أو يحللوا لونًا إلى أصباغه؛ إلا ما جاءهم من التعقيد في الوسائل، وكأن الحياة العربية كلها تصبح مجموعة من التعقيدات، فيعقد المهلبي في وسائل طعامه وملاعقه كما يعقد الشعراء في الجناسات والاستعارات، وكما يعقد المتنبي الآن في نبرات الشعر ونغماته.
وهذا الخلل الموسيقى عند المتنبي يجعلنا نذكر خللًا مماثلًا من بعض الوجوه في الموسيقى الحديثة؛ إذ نرى الفنون تتعقد ويظهر المذهب الرمزي في الشعر والتصوير، كما تظهر طائفة من الموسيقيين على رأسها رافل "ravel" تحاول أن تبعث حركة جديدة في فنها وكأنما يعجزها التجديد الصريح المستقيم، فتلجأ إلى إحداث نغمات شاذة في "الرُّقُم الموسيقية" تخالف مألوف "البسيكولوجي" والعادة، حتى تستحوذ على إعجاب الناس بالخروج على الطرق الموروثة. وهو خروج كخروج المتنبي يحدثه الموسيقيون في السمع بصنع نغمات غير مألوفة، نغمات ناشزة، يقصدون إليها قصدا ويعمدون إليها عمدًا. وكان المتنبي يحدث في موسيقى شعره ما يماثل هذه النغمات الناشزة من بعض الوجوه؛ إذ ملأه بفنون من الانحرافات والشذوذات، وقد فتح ابن هشام في كتابه المغني فصلًا استعرض فيه