للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

طرفًا من صيغها وصورها، وانظر إلى قوله الذي سبق أن أنشدناه:

وَفاؤُكُما كَالرِّبعِ أَشجاهُ طاسِمُه ... بِأَن تُسعِدا وَالدَمعُ أَشفاهُ ساجِمُه

فقد قدم في البيت وأخَّر حتى أحدث الخلل المقصود، وإنه لخلل غريب يكشف جانبًا من المهنة عند شعراء القرن الرابع؛ إذ كانوا يلجئون إلى مثل هذا الارتباك في ترتيب ألفاظ البيت فيحدثون هذا الخلل الذي يمكن أن نسمي موسيقاه باسم "الموسيقى ذات النشاز" وانظر إلى هذا البيت المذكور آنفًا:

قَلَقُ المَليحَةِ وَهيَ مِسكٌ هَتكُها ... وَمَسيرُها في اللَّيلِ وَهيَ ذُكاءُ

فقد أحدث المتنبي ارتباكًا موسيقيًّا في الشطرين، ويظهر ذلك من الرجوع إلى النحو، فإن الشطر الأول يتكون هكذا: مبتدأ- حال- خبر، أما الشطر الثاني فيتكون هكذا: مبتدأ- ظرف- حال، وحذف الخبر للعلم به، أي أن مسيرها في الليل هتك لها. أرأيت كيف استطاع المتنبي بثقافته النحوية أن يحدث هذه الموسيقى الجديدة الغريبة؟ إن هذا هو بدع القرن الرابع إذ يعمد الشعراء إلى التعقيد في شعرهم فنونًا من التعقيدات، وهي تعقيدات لا تلائم أذواقنا؛ ولكنها كانت تلائم أذواق الفنانين في هذه العصور.

والحق أننا لا نصل إلى المتنبي حتى نحس بتصنع شديد في الشعر يتناول تعبيراته كما يتناول توقيعاته، فما يزال الشاعر يعدل إلى انحرافات موسيقية أو ثقافية، وما من شك في أننا لا نعجب بهذه الحال التي صار إليها الشعر. وليس معنى ذلك أننا نمنع الشاعر من البحث عن وسائل جديدة في التعبير والتوقيع بل نحن نرى ذلك ضروريًّا للإفصاح عن حوادثنا الوجدانية التي تتطور وتتغير وتتحول دائمًا وهي في كل حال من تطورها وتغيرها وتحولها محتاجة إلى وسائل جديدة في التعبير عن هذه الأوضاع المختلفة، وكان المتنبي يجدد في هذه الوسائل؛ ولكنه لم يعتمد في ذلك على الأساليب الفنية نفسها بل راح يقترض من بيئته المتشيعة والمتصوفة والمتفلسفة أفكارًا وألفاظًا لا عهد للشعر ولا للفن بها، وليست مما تلائم طبيعته، بل لقد بالغ فذهب إلى بيئة اللُّغويين والنحويين يستمد منها

<<  <   >  >>