من التصنع التي وقفنا عندها حتى ليخيَّل إليهم وقد رأوها متجلية في شعره الذي نظمه في الشباب وقبل أن تكتمل له مهارته الفنية أنها انقطعت بعد ذلك، وهي لم تنقطع يومًا لسبب بسيط هو أن المتنبي كان يأتي بهذه المستغلقات عامدًا؛ إذ كان يتخذها مذهبًا له في صناعة شعره طوال حياته. على أنه ينبغي أن نشير -من طرف آخر- إلى أن اليازجي لم يكن يريد مستغلقات المتنبي ما وصفناه من ضروب تصنعه المختلفة؛ فإنه لم يحاول أن يدرسه دراسة منظمة يعرضه في أثنائها على ثقافات عصره ويرى مدى تأثره بها في الصياغة؛ فشيء من ذلك لم يفكر فيه اليازجي؛ إنما أراد ما في شعر حداثته من تكلف والتواء. وهي سمة تكاد توجد عند جميع الشعراء في الأدوار الأولى من حياتهم فإنهم يبدءون مقلدين متكلفين، وما يزال الشاعر يتقلب في هذا الدور حتى يتبين نفسه فيستقل عن سابقيه ويستحدث لنفسه مذهبًا جديدًا، ومع ذلك فإن مذهب المتنبي في التصنع بدا فيه منذ الأدوار الأولى من حياته الفنية، ولذلك أشرنا إلى رأي اليازجي مخافة أن يقرأه بعض المحدثين فيظن أن المتنبي إنما كان يلتزم ما أشرنا إليه من تصنع في أوائل حياته الفنية فقط؛ بينما هو في الواقع شيء عام في هذه الحياة، يبدأ معه في حداثته ويستمر معه في هرمه وشيخوخته. وقد يكون من الغريب حقًّا أن المتنبي استطاع أن يضع هذه الأشياء في شعره دون أن تلتفت إليها جمهرة النقاد سوى ما كان من الثعالبي في يتيمته، وقد عرض لها عرضًا عامًّا، ينقصه التنظيم، تنظيم المادة وتنظيم الفكرة، والخروج من ذلك إلى بيان طريقة المتنبي في صناعة شعره. وأكبر الظن أن كثيرًا من النقاد المحدثين إنما خفيت عليهم هذه المواد من التصنع بفضل ما أشاعه المتنبي في شعره من حيوية وجمال، مردهما -في رأينا- إلى خمسة جوانب، ونحن نقف قليلًا لتفسير هذه الجوانب حتى يستطيع القارئ أن يحكم حكمًا دقيقًا على شعره وما يستوعبه من تصنع في طرف وضروب جمال في طرف آخر.
أما الجانب الأول فهو غزله في شعره بالأعرابيات؛ إذ يشعر قارئ ديوانه بأن الشاعر يجذبه من حياته المتحضرة المعقدة وما فيها من تكلف إلى البداوة والبساطة