للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وأحضان الطبيعة، وأيضًا فإن العناصر البدوية في الشعر العربي تكسبه ضربًا من الجلال والروعة، وقد يكون مرجع ذلك إلى أن هذه العناصر البدوية تجعلنا نذكر الحجاز وما به من أماكن مقدسة، ولذلك كثر حشد أماكنه في شعر الشيعة والمتصوفة، وسنرى مهيارًا في الفصل التالي يُعْنَى بهذا الجانب عناية واسعة في غزلياته، ومهما يكن فقد عنى المتنبي في غزله بالبدويات وفضَّلهن على قريناتهن من أهل الحضر، وعبَّر عن ذلك أجمل تعبير؛ إذ يقول:

مَنِ الجَآذِرُ في زِيِّ الأَعاريبِ ... حُمر الحُلى وَالمَطايا وَالْجَلابيبِ١

إن كنتَ تسأل شكًّا في معارفها ... فمنْ بلاكَ بتسهيدٍ وتعذيبِ

كَم زَورَةٍ لَكَ في الأَعرابِ خافِيَةٍ ... أَدهى وَقَد رَقَدوا مِن زَورَةِ الذيبِ

أَزورُهُم وَسَوادُ اللَيلِ يَشفَعُ لي ... وَأَنثَني وَبَياضُ الصُبحِ يُغري بي

قَد وافَقوا الوَحشَ في سُكنى مَراتِعِها ... وَخالَفوها بِتَقويضٍ وَتَطنيبِ٢

جِيرانُها وَهُمُ شَرُّ الجِوارِ لَها ... وَصَحْبُها وَهُمُ شَرُّ الأَصاحيبِ

فُؤادُ كُلِّ مُحِبٍّ في بُيوتِهِمِ ... وَمالُ كُلِّ أَخيذِ المالِ مَحروبِ٣

ما أَوجُهُ الحَضَرِ المُستَحسَناتُ بِهِ ... كَأَوجُهِ البَدَوِيّاتِ الرَعابيبِ٤

حُسنُ الحَضارَةِ مَجلوبٌ بِتَطرِيَةٍ ... وَفي البَداوَةِ حُسنٌ غَيرُ مَجْلوبِ

أَفدي ظِباءَ فَلاةٍ ماعَرَفنَ بِها ... مَضغَ الكَلامِ وَلا صَبغَ الحَواجيبِ

وقد استخرج المتنبي كثيرًا من نغم هذا اللحن ونشره في جميع أطراف ديوانه، وليس من شك في أنه نغم محبب إلى كثير من النفوس التي تميل إلى البساطة والتي لا تعرف مضغ الكلام ولا تعجب بصبغ الحواجيب.

هذا أحد الجوانب الخمسة التي تجعلنا نعجب بشعر المتنبي، أما الجانب الثاني فهو ضرب من التشاؤم يبدو في ديوانه، وقد جعله برمًا بالدهر ساخطًا على الناس حتى لكأنَّه ثائر على الدُّنيا. وهي ثورة يرجعها ماسينيون -على


١ الجآذر: جمع جؤذر، وهو ولد البقرة الوحشية. والاستعارة واضحة.
٢ التقويض: رفع الخيام، والتطنيب: نصبها.
٣ المحروب: الذي ذهب ماله.
٤ الرعابيب: جمع رعبوب، وهي المرأة البيضاء الممتلئة.

<<  <   >  >>