للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

نحو ما مر بنا- إلى قرمطيته؛ فقد كان القرامطة ثائرين على الدهر والناس ونواميس المادة وفي رأينا أنها ثورة نابعة من نفسه كأن يقول:

صَحِبَ النُّاسُ قَبْلَنا ذا الزَمانا ... وَعَناهُم مِن شَأنِهِ ما عَنَانا

وَتَوَلَّوا بِغُصَّةٍ كُلُّهُم مِنـ ... ـهُ وَإِن سَرَّ بَعضهُم أَحيانا

أو يقول:

رماني الدَّهرُ بالأَرْزَاءِ حتَّى ... كأني في غشاءٍ من نبالِ

فصرتُ إذا ما أصابتني سهامٌ ... تكسَّرَتِ النِّصالُ على النِّصالِ

أو يقول:

فَلَمّا صارَ وُدُّ الناسِ خِبًّا ... جَزَيتُ عَلى اِبتِسامٍ بِاِبتِسامِ

وَصِرتُ أَشُكُّ فيمَن أَصطَفيهِ ... لِعِلمي أَنَّهُ بَعضُ الأَنامِ

وعلى هذا النمط نراه ساخطا في ديوانه على الدهر والناس ومجتمعهم الفاسد سخطًا شديدًا. والإنسان لا يقرأ فيه وفي أبي العلاء حتى يشعر بالصلة الواضحة بين الشاعرين في تشاؤمهما. وكأني بأبي العلاء لم يصنع أكثر من تنميته لهذا الجانب الذي وجده عند أستاذه المتنبي. واقرأ هذا البيت:

وَما الدَّهرُ أَهلٌ أَن تُؤَمَّلَ عِندَهُ ... حَياةٌ وَأَنْ يُشتاقَ فيهِ إِلى النَّسلِ

فإنك ترى فيه جانبًا من منهج أبي العلاء في حياته؛ إذ حرَّم على نفسه الزواج كما حرم عليها طلب النوال من الخلفاء والأمراء، ومعروف أنه أشاع هذا النهج من التشاؤم في لزومياته. على أنه ينبغي أن نعرف أن المتنبي لم يكن يائسا في تشاؤمه على نحو يأس أبي العلاء؛ إنما هو يتشاءم تشاؤم المحروم الذي يحس بلذائذ ومسرات في الحياة لا يستطيع أن ينالها، ولعله من أجل ذلك كان يعلن عشقه للدنيا وعتبه عليها فهي صادَّة عنه مدلَّة عليه، يقول:

ومن لم يعشقِ الدُّنيا قديْمًا ... ولكن لا سبيلَ إلى الوصالِ

ويقول:

وَلَذيذُ الْحَياةِ أَنفَسُ في النَفـ ... سِ وَأَشهى مِن أَن يُمَلَّ وَأَحلى

<<  <   >  >>