وواضح ما في البيتين الأخيرين من احتكام للقياس، وكان المتنبي يعنى في شعره بأقيسة المنطق، وأكثر من هذه الأقيسة في ديوانه كثرة مفرطة، وهي تعطي شعره ضرب من الحدة في التعبير والإحكام في التفكير. ومهما يكن فإن المتنبي لم يكن متشائمًا على هذا النحو الذي نجده عند أبي العلاء؛ إذ لم يكن يرفض الدنيا إنما كان يشعر إزاءها بالحرمان الشديد، ومع ذلك فليس من شك في أنه هو الذي أهَّل لكل ما نجد عند أبي العلاء من تشاؤم ونقد للحياة الاجتماعية، وحتى مشكلة الحياة والموت التي وقف عندها أبو العلاء كثيرًا في لزومياته نجدها عند المتنبي أيضًا؛ إذ يقول:
نَحنُ بَنو المَوتى فَما بالُنا ... نَعافُ ما لا بُدَّ مِن شُربِهِ
لَم يُرَ قَرنُ الشَمسِ في شَرقِهِ ... فَشَكَّتِ الأَنفُسُ في غَربِهِ
يَموتُ راعي الضَأنِ في جَهلِهِ ... مَوتَةَ جالينوسَ في طِبِّهِ
وَرُبَّما زادَ عَلى عُمرِهِ ... وَزادَ في الأَمنِ عَلى سِربِهِ١
وهذا الجانب من التشاؤم والتفكير في حقائق الحياة انطوى في جانب ثالث كان القدماء يعجبون به إعجابًا شديدًا، وهو جانب الحكم والأمثال، وقد ساق منها العُكْبَري في القسم الأول من شرحه على المتنبي نماذج كثيرة قدم لها بقوله: "وقد أجمع الحذاق بمعرفة الشعر والنقاد أن لأبي الطيب نوادر لم تأت في شعر غيره وهي مما تخرق العقول، منها قوله: