واستمر العُكْبَري يحشد حكمًا وأمثالًا كثيرة، وعقب على حشده بقوله:"فهذا الذي لم يأت شاعر بمثله؛ ولكن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، ويؤتي الحكمة من يشاء"١ ومعروف أن المتنبي استعان -كما مر بنا- في صناعة هذه الحكم بما قرأه في عصره من حكم نسبت إلى أرسططاليس. ومهما يكن فقد رفع هذا الجانب كثيرًا من شعر المتنبي إذ عالج أطرافًا من علل الإنسانية مبينًا لأدوائها كما أدلى بكثير من الآراء التي تزيد من خبرتنا بالإنسان وطباعه والحياة وتصاريفها، وتعينه في ذلك عين واعية بصيرة.
وليس ذلك كل ما يرفع من المتنبي في ديوانه؛ فهناك جانب رابع لا يقل أهمية في رأينا عن الجوانب السابقة، وهو تغنِّيه بالبطولة؛ إذ كان سيف الدولة أمير حلب هذه الولاية الصغيرة يقف في عصر المتنبي درعًا للأمة العربية يحميها من دولة الروم الشرقية؛ فمجَّد المتنبي هذه البطولة فيه، وتغنَّى بها غناءًا حارًّا حتى ليتفوق على أقرانه من الشعراء الذين مدحوا قادة العرب وأبطالهم تفوقًا بينًا، ومرجع ذلك -في رأينا- إلى سببين: أما السبب الأول فواضح، وهو موقف سيف الدولة من الروم وحمايته للعرب، وكان المتنبي يشعر بعروبته شعورًا عميقًا، وأما السبب الثاني فيرجع إلى أن المتنبي نشأ ثائرًا، يريد أن يرد للعرب دولتهم المفقودة، وحمل السيف، وسله، ولم يكتب النجاح لثورته؛ غير أن نفسه ظلت تموج بالثورة ومنازلة الأعداء وأيضًا فإن المتنبي كان فارسًا يمجد الفروسية وبذلك اجتمعت له عناصر مادية ونفسية كثيرة جعلت وصفه لحرب سيف الدولة شعلًا من الحماسة القوية كأن يقول: