للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لَهُ عَسكَرا خَيلٍ وَطَيرٍ إِذا رَمى ... بِها عَسكَرًا لَم يَبقَ إِلّا جَماجِمُه

فَقَد مَلَّ ضَوءُ الصُبحِ مِمّا تُغِيرُهُ ... وَمَلَّ سَوادُ اللَيلِ مِمّا تُزاحِمُه

وَمَلَّ القَنا مِمّا تَدُقُّ صُدورَهُ ... وَمَلَّ حَديدُ الهِندِ مِمّا تُلاطِمُه

سَحابٌ مِنَ العِقبانِ يَزحَفُ تَحتَها ... سَحابٌ إِذا اِستَسقَت سَقَتها صَوارِمُه

ومن أروع ما يصور احتدام مشاعر العروبة في نفسه قوله مخاطبًا سيف الدولة وقد انتصر على الروم في درب القلة:

لَقيتُ بِدَربِ القُلَّةِ الفَجرُ لَقيَةً ... شَفَت كَمَدي وَاللَّيلُ فيهِ قَتيلُ

فقد جعل انتصاره يشفي غيظ نفسه، وتصور فترة الخمود السابقة لهذا الانتصار ليلًا ثقيلًا، وهو ليل لم يلبث أن طعنه سيف الدولة طعنة نجلاء، فتبلج الظفر ونشر نور الفرحة في النفوس.

وعلى هذا النمط اندفع المتنبي في شعره يتغنى ببطولة سيف الدولة، وهو غناء لا شك في أن كل نفس عربية تجد فيه صورة روحها وقوميتها وكل ما تعتز به من فتوة وقوة ضد أعدائها الذين تنازلهم وتمحقهم محقًا. وانطوى في هذا الغناء جانب خامس، وهو تعبير المتنبي عن طموحه واعتداده بنفسه وترفعه عن كل من حوله كأن يقول:

يُحاذِرُني حَتفي كَأَنِّيَ حَتفُهُ ... وَتَنكُزُني الأَفعى فَيَقتُلُها سُمّي١

كَأَنّي دَحَوتُ الأَرضَ مِن خِبرَتي بِها ... كَأَنّي بَنى الإِسكَندَرُ السَدَّ مِن عَزمي٢

أو يقول:

وَفي الناسِ مَن يَرضى بِمَيسورِ عَيشِهِ ... وَمَركوبُهُ رِجلاهُ وَالثَوبُ جِلدُهُ

وَلَكِنَّ قَلبًا بَينَ جَنبَيَّ مالَهُ ... مَدىً يَنتَهي بي في مُرادٍ أَحُدُّهُ

أو يقول:

إِذا غامَرتَ في شَرَفٍ مَرومٍ ... فَلا تَقنَعْ بِما دونَ النُّجُومِ

فَطَعمُ المَوتِ في أَمرٍ حقيرٍ ... كَطَعمِ المَوتِ في أَمرٍ عَظيمِ

وليس من شك في أن المتنبي كان موفقًا حين وضع هذه النغمة في شعره،


١ تنكز: تلسع.
٢ دحا: بسط.

<<  <   >  >>