لسبب طبيعي وهو أن كل عربي ينطوي عليها، ينطوي على الثقة بالنفس التي لا حد لها وما يتصل بها من الأنفة والإباء والشعور بالكرامة ومن أجلها كان شعر المتنبي يلتصق بنفوس العرب على مدار الزمن ويشغفون به شغفًا شديدًا؛ ولكن هذا كله ينبغي أن لا ينسينا ما قلناه، فقد كان المتنبي شاعرًا ماهرًا، واستطاع بمهارته أن يخفي حقيقة فنه وصناعته عن كثير من المستمعين والنظارة، وأعانه في ذلك أنه كان صاحب صوت ضخم لا يرتفع به حتى يحدث جلبة شديدة. وهذا نفسه ما ضلل النقاد قديْمًا وحديثًا في فهمه؛ فقد تابعوه في وصفه للأعرابيات وتشاؤمه وحكمه وتمجيده للبطولة العربية وفخره وطموحه إلى المعالي وترفعه عن الدنايا ونسوا نسيانًا تامًّا أنه شاعر متصنع يحترف التصنع في شعره للثقافات المختلفة؛ إذ يحاول أن ينقل إيماءة شيعية أو صوفية، وشارة فلسفية أو منطقية، وشاذة لغوية أو نحوية. وشاردة تركيبية أو موسيقية، وبذلك كان قطبًا كبيرًا في مذهب التصنع، بل لقد كان المفتاح الذي أخذت تتساقط منه نغمات هذا المذهب في قصائد الشعراء ونماذجهم.