المديح، وما نهج نهج نماذجه من الهجاء والرثاء والعتاب؛ بل إنها لتمتد إلى ضروب الشعر الأخرى، ونحن نريد أن نصطلح على تقسيم الشعر العربي إلى قسمين عامين: قسم كان يتخذ تقاليد خاصة في صناعته، وكانت له أهمية واسعة في العصور الوسطى، وهو هذا القسم الذي كان يتخذ حرفة للتكسب به والذي كان يجمع له الشعراء من أسباب الإجادة الفنية ما جعل الشعر العربي يتطور إلى مذاهبه الخاصة، وهو نماذج المديح وما يتصل بها؛ ولعل خير اسم يمكن أن نعطيه له هو اسم "الشعر التقليدي"؛ فقد كان يرتبط بتقاليد رسوم كثيرة.
وكان يقابل هذا النوع نوع آخر من الشعر استمر يغنّى من العصر الجاهلي إلى العصر الحديث؛ ولعل خير اسم يمكن أن نطلقه عليه هو اسم "الشعر الغنائي"، وهنا قد يحدث هذا الاصطلاح اضطرابًا؛ فقد نقل بعض نقادنا المحدثين تقسيم الغربيين شعرهم إلى قصصي وتمثيلي وغنائي ووضع الشعر العربي جملة في حيز القسم الأخير، ونحن لا ننكر هذا الصنيع من حيث هو؛ فالشعر العربي كله نشأ في ظروف غنائية، وهو -في أكثره- يصور شخصية الشاعر وأهواءه وميوله، وهو أيضًا يمثل حياة الفرد تمثيلًا قويًّا؛ ولهذا كله لا بأس من أن نجعله في حيز الشعر الغنائي الغربي.
غير أنا نلاحظ أن هذا الشعر العربي الغنائي في نشأته وخصائصه أخذت تستقل منه فنون منذ أواخر العصر الجاهلي وتتطور تطورًا منفصلًا. لم تعد تقوم على أسس غنائية، كما كان الحال في أول نشأتها؛ فلم تعد تظهر فيها شخصية الفرد ظهورًا بينًا، ولم تعد تصور عواطفه وخواطره تصويرًا واضحًا، وهي كذلك لم تعد متصلة بالغناء؛ ولذلك كان يحسن بنا أن نميزها عن الشعر الغنائي العام، وأن نصطلح على تسميتها بالشعر التقليدي بينما نبقي اصطلاح "الشعر الغنائي" دالًّا على تلك المقطوعات القصيرة التي كانت تصاحب الغناء منذ العصر الإسلامي؛ بل العصر الجاهلي إلى العصر الحديث. وكانت هذه المقطوعات تشيع في الحجاز في أثناء العصر الإسلامي، وكانت تتخصص فيها طائفة من الشعراء على رأسها عمر بن أبي ربيعة والأحوص وأمثالهما؛ ممن كانوا يقدمون تلك المقطوعات.