للمغنين والمغنيات أمثال معبد ومالك وابن سُرَيْج وابن مُحرز وجميلة وسَلَّامة. وهي مقطوعات كانت تنظم في موضوع واحد لا تسبقه مقدمات ولا تلحقه خواتيم على نمط ما رأينا في مطولة زهير، وهي كذلك لا تكلف أصحابها كل هذا العناء الذي كان يعانيه زهير في حوله حين كان يصنع إحدى حولياته؛ إنما هي قطع غنائية يغني فيها الشعراء حُبَّهم وآمالهم وخواطرهم وعواطفهم الوجدانية، وقلما تجاوزت هذه القطع عشرة أبيات. وأعدَّ الغناء الذي صحبها لتحول واسع في أوزان الشعر العربي وموسيقاه في أثناء العصرين الإسلامي والعباسي، وسنعرض لذلك في الفصل التالي.
على أن هناك وزنًا من الأوزان التي كانت مخصصة للغناء في العصر الجاهلي قد تحول في هذا العصر الإسلامي إلى الفروع الجديدة من الشعر التقليدي ونقصد وزن الرَّجز الذي كان يقترن في العصر الجاهلي بالسَّقْي من الآبار والسير وراء الإبل، كما كان يقترن بالحروب، وكان يتكون من مقطوعات قصيرة؛ فلما جاء العصر الإسلامي تحول عن مجرى الشعر العربي الغنائي العام إلى تلك الفروع التقليدية وأخذ أصحابه يستخدمونه في المديح والأغراض الأخرى للشعر التقليدي؛ فاتسعت أبياته وامتدت على نمط ما نعرف في قصائد جرير والأخطل، وقد حاولوا أن يوفروا له كل ما يمكن من وسائل التجويد الفني، وأهم شعرائه في هذا العصر العجَّاج وابنه رؤبة ثم حفيده عقبة. ونحن نشعر هنا بأنا إزاء بيت كبيت زهير يأخذ فيه الشاعر عن أبيه صناعته، ثم يلقنها ابنه من بعده، وليس من شك في أن هذا البيت قد حقق لنفسه كثيرًا من الخصائص الفنية.
ومهما يكن فإن "مذهب الصنعة" استمر في العصر الإسلامي؛ ولكنه أخذ يتطور، وقد اتخذ الصُّنَّاع أمثلتهم في زهير ومدرسته، وخاصة صناع الشعر التقليدي وأضافوا تجديدًا في بعض الفنون كما أضافوا بعض التعقيد إلى حرفتهم على نمط ما رأينا عند كُثَيِّر بحيث نستطيع أن نعمِّم في هذا العصر كما عممنا في العصر الجاهلي فنزعم أن الشعراء جميعًا كانوا يتكلفون في صنع نماذجهم، إذا كانت تسير كثرتهم في الطريق الذي مَهَّدَه زهير وعَبَّده. ونحن نلتقي في هذا العصر