فَقَدَتْ ألوان التصنيع الحسية -عند شعراء اليتيمة ومن جاء بعدهم- قيمتها كزينة وزخرف؛ فقد استحالت إلى تكلف وتصنع خالص. على أنه كان ينجم بين الشعراء أحيانًا من يرفض الإغراق في التصنع ويعنى بصفاء تعبيره كأبي فراس الحمداني والشريف الرضي، ولا بد أن نخص كلا منهما بكلمة قصيرة لما حازا من شهرة.
أَبُو فِرَاسٍ الْحَمْدَاني:
هو الحارث بين سعيد بن حمدان، ولد سنة ٣٢٠ للهجرة، وكان أبوه حينئذٍ واليًا على الموصل، أما أمه فكانت رومية، ولم تكد الحياة تتقدم به حتى قُتل أبوه غدرًا؛ فكفلته أمه، ورعاه ختنه وابن عمه سيف الدولة؛ فلما استقل بحلب كان ساعده الأيمن فعيَّنه واليًا على مَنْبَج وحرَّان وأعمالهما. وما زال ينازل الروم معه حتى أصابوا منه غرَّة سنة ٣٥١ فأسروه وظل في أسرهم أربع سنوات كان يكاتب في أثنائها ابن عمه ليفدِيه، وهو يتراخي في فدائه، حتى لا يفك عنه أسره دون بقية الأسرى من المسلمين الذين وقعوا في قبضة الروم، وظل سيف الدولة يتحين الفرص حتى كانت سنة ٣٥٥ فافتداه هو وغيره منهم. وسرعان ما توفِّي سيف الدولة فحدَّثت أبا فراس نفسُه بالثورة على ابنه أبي المعالي؛ لكن جنده تغلبوا عليه وقتلوه سنة ٣٥٧.
نحن إذن بإزاء بطل من أبطال الحمدانيين، وقد استيقظت فيه شاعريته منذ مطالع شبابه، واتجه بها إلى الغزل والفخر بأسرته والاعتداد بشجاعته وغنائه في الحروب هو وآله، وقراعهم لكتائب الروم وغير الروم على شاكلة قصيدته المشهورة:
وفخره يمتلئ بالحيوية؛ لأنه يصوِّر فيه واقعًا لا وهمًا من أوهام الخيال. وجرَّته شيعيته -والحمدانيون جميعًا شيعة- إلى نظم قصائد في آل البيت يتعرض فيها أحيانًا لخصومهم العباسيين. وخير أشعاره جميعًا رومِيَّاته التي نظمها في أسْرِهِ والتي كان يرسل بها إلى سيف الدولة معاتبًا لتقاعسه عن فدائه، وهي تكتظ بالحنين إلى الأهل والشكوى من الدهر والرفاق، ومن روائعها قصيدته التي