للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

واستمر يشكو من الدهر كأن يقول:

فأينَ من الدَّهرِ استماعُ ظلامتي ... إذا نظرتْ أيامُهُ في المظالمِ

ولم أدرِ أنَّ الدَّهرَ يخفضُ أهلِهُ ... إذا سكنت فيهم نفوسُ الضَّرَاغِمِ

وهي شكوى ترددت كثيرًا في هذا العصر عند الشريف وغيره من الشعراء؛ فقد كان هناك من الكآبة في الحياة الإسلامية العامة؛ بسبب ما أصابها من اضطراب سياسي واجتماعي، ما جعل الشعراء يرددون هذا اللحن، وكان الشريف من أكثر الشعراء ترديدًا له متأسيًا -كما قلنا- في صنيعه بالمتنبي، وأكثرَ مثلَهُ من الحِكَم في شعره كقوله:

إذا أنت فتَّشْتَ القلوبَ وجدتَهَا ... قلوبُ الأعادي في جسومِ الأصادقِ

وأيضًا فقد قلَّده في غزله بالأعرابيات وما ينطوي معها من ذكر العِيس والبِيد كقوله:

وعْجنا العيسَ توسعنا حَنِينًا ... تُغَنِّينا ونوسعها بكاء

وقوله:

حَيِّيا دون الكثيبِ ... مرتَعَ الظَّبي الرَّبيب

ولهذه الغزليات حيز واسع في ديوانه، وهو يطبعها بطوابع من العفة والطهر، ودائمًا يردد ذكر مواضع نجد والحجاز فمعشوقاته دائمًا حجازيات. وله في ذلك قطع رائعة مثل مقطوعته المشهورة.

يا ظبية َالبانِ ترعَى في خمائله ... ليهْنِك اليوم أن القلب مَرعَاك

وتوسع في هذا الموضوع كما توسع في الحكم؛ غير أنه ينبغي إذا ذكرنا المتنبي معه أن نضعه في مرتبة متخلفة عنه؛ إذ يتفوق المتنبي عليه في جمال التعبير وقوته. وعلى كل حال كان الشريف يحاكي المتنبي ويلفِّق كثيرًا من معانيه وحكمه في نماذجه؛ وقد عم التلفيق من حوله في هذه العصور؛ إذ نرى الشعراء يلفقون نماذجهم من الخواطر الموروثة والأفكار المطروقة. ولعل مهيار خير شاعر يصور هذا الجانب في الشعر العربي؛ إذ لم يكن يستعين على شعره بثقافة ولا فلسفة، وكان أجنبيًّا عن اللغة، وحاول أن يطيل في قصائده، فظهر تلفيقه مكشوفًا، ولذلك سنقف عنده في الفصل التالي حتى نتمثل هذا الجانب الفني من صناعة الشعر العربي تمثلًا واضحًا.

<<  <   >  >>