للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقد منعت غضارَتها وجفَّت ... على أخلاقها الأيدي الشِّحاحُ

غدًا يا نفسُ فانتظري أناسًا ... هُمُ فرَجٌ لصدركِ وانشراحُ

فقد فصل بين أقول ومتعلقاتها بنحو ثلاثة أبيات، جاء بها حشوًا، لا لشيء سوى أن يطيل في نموذجه، وأن يحقق الكَمَّ الذي يريده لقصيدته؛ فإذا الإنسان لا يقرأ في شعر، وإنما يقرأ في نثر أو رسالة من الرسائل. ونحن لا نرتاب في أن مهيار حين خرج بنماذجه وقصائده إلى التطويل فيها، وجلب مراسيم الرسائل لم يستطع أن يشفع ذلك بجمال فني لا من جهة حسية ولا من وجهة عقلية إلا قليلا جدًّا، وكان ابن الرومي يطيل من قبله في قصائده ولكن الطول عنده كان مفهومًا؛ إذ كان يستخدم فيه ثقافته ومنطقه، فإذا المعاني تتسع عنده اتساع الرقاقة في قوله يصف خبَّازًا:

ما أَنسَ لا أنس خبازًا مررتُ بِهِ ... يدحو الرقاقةَ وشك اللَّمح بالبصرِ١

ما بين رُؤيتها في كفِّهِ كُرَةً ... وبين رؤيتِها قوراء كالقَمَرِ٢

إلا بمقدارِ ما تنداحُ دائرةٌ ... في لُجَّةِ الماءِ يُرْمَى فيه بالحجَرِ٣

فابن الرومي كان يخبز معانيه خبزة عقلية إن صح هذا التعبير، أما مهيار فلم يكن يطيل في شعره بدافع عقلي؛ إنما كان يطيل من أجل الطول نفسه؛ ولذلك فقد الشعر عنده كل ما يحمل من حرارة العاطفة وتوهجها، لولا ما كان يسلكه فيه من أقواس موسيقية.

وحقًّا إن مهيار تسلم له بعض قطع من نماذجه يوفر لها من القيم الصوتية ما نعجب به؛ ولكن ذلك لا يسري إلى أكثر شعره وأغلبه، بل إنه لا يسري إلى بقية القصائد التي قد نستجيد منها هذه القطع، فما يزال يهجم علينا منه هذا التلفيق وهذا الحشو، وكأني به حينما بسط نماذجه كل البسط أصبح الجمال الفني عنده مهوَّشًا لا روعة فيه ولا تنسيق.


١ يدحو: يبسط.
٢ قوراء: واسعة.
٣ تنداح: تنبسط.

<<  <   >  >>