للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

يظهر الإفراط في الحس والشعور؛ بل هو طراز مائع ليِّن ليونة شديدة، وقد انتشر هذا الطراز بعد مهيار واستمر إلى عصرنا الحديث، وهو طراز ظهر في الشعر العربي حين أترفت الحضارة، وأترف الحس والشعور على هذا النمط الذي نرى فيه مهيار يقول:

غار المحبونَ من أبصارِ غيرهِمُ ... ضداً وغِرْتُ على لمياءَ من بصري

وإنها لغيرة غير مألوفة، فعهدنا بالمحبين أن يغاروا حقًّا، ولكنا لم نعهد أحدًا يغار من نفسه بل يغار من بصره. لقد كان خليقًا به أن يحمد هذا البصر، وإن كان يريد أن يُبْعِد في التعبير والتفكير فليسلك إلى ذلك طريقًا آخر، فيه قرب، ليقل لها: إنه يريد أن يظل له بصره حتى يراها به، ولكن مهيار كان يريد شيئًا آخر غير إظهار الدقة في الشعور، كان يريد أن يعبر عن ليونة وميوعة فإذا هو لا يغار قط من غيره؛ بل هو يغار من بصره حتى يعلن إلى صاحبته ما اشتمل عليه من رهافة حسه، بل من مرض حسه وما أصابه من هذه الميوعة الشديدة، وانظر إليه يقول:

وحبّي لذكركِ حتى لَثَمْـ ... ـتُ مسلَكَه من فمِ العَاذِلِ

فإنك ترى صورة أخرى لا تقل غرابة عن سابقتها، فها هو ذا مهيار يلثم فم العاذل حين يذكر له صاحبته، أرأيت إلى هذا التصنع لإظهار الإفراط في الشعور، بل لإظهار تلك الميوعة التي أخذت ترسخ أصولها وتستقر في هذا الديوان الضخم عند مهيار، واقرأ فيه ما استطعت أن تقرأ فإنك ستشرف دائمًا على هذه الميوعة الشديدة.

<<  <   >  >>