للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

يا نداماي بسلْعٍ هل أرى ... ذلك الْمَغْبَقَ والمصْطَبَحا١

اذْكُرونا قد ذكرَنا عهدَكُم ... ربَّ ذكَرى قرَّبتْ مَن نَزَحا

واذكروا صبًّا إذا غنى بكم ... شرب الدَّمعَ وعافَ القَدَحَا

ولا يروعك الآن ما تجد في هذه القطعة من موسيقى جيدة؛ فهي لا تطَّرد له في بقية قصيدته فضلًا عن قصائده الأخرى؛ إنما هي أبيات وقطع تأتي نادرة في ديوانه تستقيم له الموسيقى فيها ويستقيم له التعبير على أن جمال هذه القطعة في الواقع يأتي قبل كل شيء مما فيها من تواجد وحنين، وهو لا ينقلب إلى تلك الميوعة التي نعرفها في مهيار، ولذلك يقع منا موقعًا طريفًا. وحقًّا إننا لا ننكر الوجد في الغزل ولكننا ننكر الميوعة وما يطوى فيها من ليونه وتخنث. ولعل أهم شيء جعل مهيار لا يسقط في غزله سقوطًا تامًّا هذه العناصر البدوية التي كان يستعين بها في شعره والتي كانت تطوى في داخلها جانبًا من الشعور بالألم والحزن. وهو شعور جاء مهيار من تشيعه؛ فالشيعة دائمًا محزونون، وهم لذلك دائمًا يشعرون بالألم، وقد تسرب هذا الألم وتسرب هذا الحزن إلى غزل مهيار فشع منه حنين وتواجد بل إغراق في الحنين والتواجد، وكأنما نقرأ في ديوان مهيار لشاعر متشيع، بل نحن نقرأ حقًّا لشاعر متشيع يحز الألم في صدره، وهو ألم يفضي به إلى هذا التواجد في الحب، ولعل ذلك ما جعل المتصوفة يغنون بغزله، فهم يذكرون أن من سماعهم قوله٢:

مَنْ ناظرٌ لي بين سَلعٍ وقُبَا ... كيف أضاءَ البرقُ أم كيف خَبَا٣

نبَّهَني وميضُه ولم تَنمْ ... عيني ولكن رَدَّ عقلًا عَزَبا

برقٌ لهُ قد صار قلبي خافقًا ... واستبردتْه أضلعي مُلْتهبا

يا لَبعيدٍ من مِنىً دَنَا به ... يوهمني الصدقَ بُرَيْقٌ كَذَبا


١المغبق: مكان الغبوق وهو الشرب في المساء، والمصطبح: مكان الصبوح، وهو الشرب في الصباح. وقد ذكرهما على التشبيه.
٢ محاضرات الأبرار: لابن العربي ١/ ٢١٤.
٣ قباء: موضع قرب المدينة.

<<  <   >  >>