للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقد خرج أبو العلاء من بيت علم وشعر وقضاء؛ فآباؤه كانوا يتولون قضاء المعرة، وتحدث عنهم ياقوت في ترجمته له حديثًا مستفيضًا، ذكر لهم فيه طرفًا من أشعارهم، وكان لهذا الميراث العلمي أثره في تربية المعرى؛ إذ جعله يميل للبحث والدرس، وأيضًا فإن فقد بصره حدد موقفه، وجعله يطلب العلم ويشغف به، وبدأ أبو العلاء بهذا الدرس والتحصيل في المعرة؛ إذ تتلمذ على أبيه ومن في بلدته من تلامذة ابن خالويه. يقول القفطي: "ولما كبر أبو العلاء ووصل إلى سن الطلب أخذ العربية عن قوم من بلده كبني كوثر ومن يجري مجراهم من أصحاب ابن خالويه وطبقته، وقيد اللغة عن أصحاب ابن خالويه أيضًا، وطمحت نفسه إلى الاستكثار من ذلك؛ فرحل إلى طرابلس الشام وكانت بها خزائن كتب وَقَفَها ذوو اليسار من أهلها، فاجتاز باللاذقية ونزل دير الفاروس، وكان به راهب يشدو شيئًا من علوم الأوائل، فسمع منه أبو العلاء كلاما من أوائل أقوال الفلاسفة حصل له به شكوك لم يكن عنده ما يدفعها به، فعلق بخاطره ما حصل به الانحلال وضاق عطنه عن كتمان ما تحمله من ذلك حتى فاه به في أول عمره وأودعه أشعارًا له١"

وقد يكون القفطي ألقى بخبر لقاء أبي العلاء لراهب دير الفاروس دون تثبت، تعليلًا لأبيات وضعت على لسانه، وليست في اللُّزوميات ولا سقط الزَّند تجري على هذه الصورة.

في اللاذقية فتنةٌ ... ما بين أحمَدَ والمسيحْ

هذا بناقوسٍ يدُقُّ ... وذا بمئذنةٍ يصيحُ

كل يعززُ دينَهُ ... ليت شعري ما الصحيحُ

ويظهر من اللزوميات أن أبا العلاء كما درس العلوم اللغوية والشرعية درس المسيحية واليهودية في أثناء تطوافه بالشام وأدياره. ولما بلغ الثلاثين سأل ربه إنعامًا ورزقه صوم الدهر فلم يفطر في السنة والشهر إلا في العيدين٢ وفي


١ تعريف القدماء بأبي العلاء "طبع دار الكتب" ص٣٠.
٢ الحضارة الإسلامية ٢/ ١١٠.

<<  <   >  >>