للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

سن السادسة والثلاثين رحل إلى بغداد، ولقي علماءها من أمثال الربعي والواجكا والسكري والمرتضي١، وقد لقيه الأول والأخير لقاء سيئًا، وفارقها وهو يقول:

رحلتُ فلا دُنْيا ولا دينَ نلتَهُ ... وما أَوبَتي إلا السفاهةُ والخرقُ

ولما عاد إلى المعرة التزم ثلاثة أشياء: "نبذة كنبذة فتيق النجوم وانقضابًا من العالم كانقضاب القائبة٢ من القوب وثباتًا في البلد أن حال أهله من خوف الروم"٣. وسَمَّى نفسه رهين المحبسين، يعني حبس نفسه في المنزل، وحبس بصره عن الرؤية٤. ومكث في هذين المحبسين نحو خمسين عامًا ألِفَ خلالها تلك الكتب الكثيرة التي رواها له ياقوت في معجمه، وهي تدل على أنه كان واسع الثقافات سعة شديدة؛ فهو يعرف الديانات والمعتقدات المختلفة كما يعرف الفلسفة والتنجيم والتاريخ والتصوف، وما يطوى في ذلك من ثقافات يونانية وفارسية وهندية، وعني عناية خاصة بالثقافة اللغوية فألَّف في النحو والعروض، وتصنع للغريب في جميع آثاره. وليس من المبالغة أن نزعم أنه كان إمامًا ممتازًا من أئمة اللغة؛ فليس هناك شاذة لغوية إلا وهو يعرفها ويسلكها فيم يكتب من نثر أو نظم، وكان السابقون يلاحظون مهارته في هذا الجانب؛ فالصفدي يعدد من رزقوا السعادة في أشياء لم يأت بعدهم من نالها ويذكر منهم أبا العلاء في الاطلاع على اللغة. ويقول التبريزي: "ما أعرف أن العرب نطقت بكلمة ولم يعرفها المعرى" وكانوا يقرنونه إلى ابن سِيدَة اللغوي المعروف. ويقولون: "كان بالمشرق لغوي وبالمغرب لغوي في عصر واحد لم يكن لهما ثالث وهما أبو العلاء وابن سيدة"٥ وحقًّا أن أبا العلاء كان مثقفًا ثقافة لغوية واسعة، وكان يضيف إليها هذا الخليط المضطرب من ثقافاته الكثيرة وخاصة ما اتصل بالثقافة الفنية من الشعر إذا كان يعنى عناية شديدة بجمع الأفكار والصور


١ تعريف القدماء بأبي العلاء ٥١٥.
٢ القائبة: الفرخ. القوب: البيض.
٣ رسائل أبي العلاء "طبع مرجليوث" ص٣٤.
٤ معجم الأدباء ١/ ١٧٠.
٥ انظر في هذه النصوص كتاب "أبو العلاء وما إليه" للراجكوتي.

<<  <   >  >>