للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ابن ضرار يتوعد خصومه١:

فقد علموا في سالف الدهر أنني ... معَنٌّ إذا جَدَّ الْجِرَاءُ وَنَابلُ

زعيمٌ لمن قاذفتُه بأوابدٍ ... يُغنِّي بها الساري وتُحْدَى الرَّواحلُ

ويقول عنترة كما في بعض الروايات: "هل غادر الشعراء من مترنَّم"؛ فالشعراء ما يزالون يترنمون بأشعارهم، وكأنهم لم يتركوا -في رأي عنترة- موضعًا للترنم والغناء إلا وترنموا به وغنوا فيه. وأيضًا فنحن نعرف هذا الحداء الذي يذكره مزرد، والذي كان غناء شعبيًّا عامًّا يشدو به العرب في أسفارهم.

ومهما يكن فإن الشعر ارتبط بالغناء في العصر الجاهلي، ولعلهم من أجل ذلك كانوا يعبرون عن نظمه وإلقائه بالإنشاد؛ بل إنا لنراهم يعبرون عنه بالتغني. وقد بقيت من هذا بقية في نصوص العصر الإسلامي، يقول ذو الرمة٢:

أحِبُّ المكان القفر من أجل أنني ... به أَتَغَنَّي باسْمها غير مُعْجِمِ

وقال عمر بن الخطاب للنابغة الجعدي: "أسْمعنِي بعض ما عفا الله لك عنه من غنائك، يريد من شعرك"٣، وفي أخبار جرير أن بعض بني كليب قالوا له: هذا غسان السليطي يتغنى بنا أي يهجونا فقال جرير٤:

غضبتم علينا أم تَغَنَّيْتُم بنا ... أنِ اخضرَّ من بطن التلاع غَمِيرهُا

وليس من شك في أن هذه النصوص تشهد بأن الغناء والشعر كانا مرتبطين عند العرب في العصور القديمة. وهم يقصون عن ثعلب أن العرب كانت تعلِّم أولادها قول الشعر بوضع غير معقول يوضع على بعض أوزان الشعر كأنه على وزن "قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل"٥؛ فأساس الشعر عندهم كان تعلم الغناء وألحانه، وكما أن الموسِيقِيّ يبدأ ويستمر، كذلك كان الشاعر عندهم يبدأ


١ المفضليات المجلد الأول ص١٧٨. ومعن: معترض في الخصومة. الجراء: الجري. نابل: حاذق في أموره. زعيم: كفيل. الأوابد: الغرائب من الكلام، وأراد ما يهجوهم به.
٢ العمدة لابن رشيق ٢/ ٢٤١.
٣ العقد الفريد لابن عبد ربه ٤/ ٩١.
٤ لسان العرب مادة غنى. والتلاع: المرتفعات من الأرض. الغمير: نبات.
٥ إعجاز القرآن للباقلاني ص٥٣.

<<  <   >  >>