إلا أن هذا العقل كان قاصرًا ولم يستطع أن يفسر له أسرار الكون وما فيه من حقائق الخير والشر ومن هنا اعترف كما مر بنا آنفًا أنه لا يكاد يوجد يقين وأن مبلغ علم الإنسان أن يظن ويحدس، وكأن العقل يضطر أحيانًا إلى التوقف دون اليقين عند أسوار الظن والحدس. وآمن -خاصة في المسائل الشرعية- أن العقل ينبغي أن لا يجمح وأن لا يحاول الخروج على الشرع بل يكون تابعًا له، يقول:
وجدنا اتِّباع الشرع حزمًا لذي النُّهى ... ومن جرب الأيام لم ينكر النَّسخا
وقد توقف بعض الباحثين عند أبيات في اللُّزوميات رآه فيها يهاجم الديانات فظن أنه يهاجمها حقًّا، وهو إنما يهاجم أصحابها، يقول:
هفتِ الحنيفةُ والنصارى ما اهتدت ... ويهود حارت والمجوسُ مضلِّلَة
اثنان أهلُ الأرضِ ذو عقل بلا ... دين وآخرُ دين لا عقلَ لهُ
في كل جيلٍ أباطيلٌ ملفَّقةٌ ... فهل تفرد يومًا بالهدى جيلُ
وواضح أن أبا العلاء إنما يهاجم في البيتين الأولين أصحاب الديانات الذين توزعتهم الفرق والأهواء فأهدروا عقولهم؛ حتى عمت الحيرة والتبس الأمر، وهو في البيتين التاليين إنما ينص على أنه لا يوجد جيل يخلو من الكفر والضلال. وليس في ذلك هجوم على الأنبياء ولا هجاء كما ظن بعض المعاصرين.