للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولا نستطيع أن نخرج من كل ذلك بأن أبا العلاء كان زنديقًا أو ملحدًا كما قال بعض القدماء، والواقع أنهم تطرفوا حينما أضافوا إلى أبي العلاء الزندقة والإلحاد ملتمسين ذلك في أبيات حملوها على معنى مخالف لما قصده، وهي قليلة جدًّا في لزومياته؛ إذ كثرتها تحميد وتقديس وتمجيد في الله. على أننا إذا تطرقنا مع هؤلاء السابقين وجعلنا أبا العلاء زنديقًا أو ملحدًا لم يكن هناك ما يبرر أن نزعم بأنه فيلسوف؛ لأن الإلحاد والزندقة ليسا هما الفلسفة فالفلسفة شيء والإلحاد والزندقة شيء آخر، وإلا سقط من تاريخ الفلسفة كثير من الفلاسفة المسيحيين والمسلمين.

والحق أن أبا العلاء كان مفكرًا حرَّ الفكر وكان زاهدًا صادق الزهد وكان شديد التشاؤم؛ غير أنه لم يستطع أن يخرج من ذلك إلى إحداث نظرية معينة أو منهج معين يمكن أن نسميه "المنهج الفلسفي لأبي العلاء" إلا إذا كنا ممن يلتقطون بعض الأقوال للشعراء ويحاولون أن يحملوها أكثر من مدلولها، ثم يستخرجوا لهم فلسفة ذات أصول وفروع متشابكة. ونحن بهذه الطريقة نستطيع أن نجعل أبا العلاء فيلسوفًا، كما نستطيع أن نجعل المتنبي وأبا تمام وأبا العتاهية فلاسفة بأفكار معدودة وآراء محصورة جاءت في أشعارهم. والحق أن في ذلك كله مبالغة في البحث يؤدي إليها عادة غلو الباحث في الإعجاب بالشاعر الذي يبحثه، وكان من حسن حظ أبي العلاء أن غالى كثير من المعاصرين الذين عنوا ببحثه؛ فأثبتوه فيلسوفًا لما رأوا عنده من تشاؤم وحيرة وشك وزهد، ولكن هل يكفي التشاؤم أو الزهد أو الحيرة لنعد شخصًا فيلسوفًا؟ أما نحن فلا نشك في أن أبا العلاء لو كان فيلسوفًا حقًّا لفلسف تشاؤمه في الحياة فجعله في شكل كلية عامة، وطبق هذه الكلية على الجزئيات المختلفة تطبيقًا شاملًا، إذن كان يتساءل كيف نحكم على الأشياء وما أدواتنا في المعرفة، هل هي الحس أو الفكر أو هما جميعًا.

ولكنه لم يصنع شيئًا من ذلك، إنما كل ما صنعه أنه استراح إلى العقل في الحكم على الأشياء وألقى عليه العبء كله، ولو أنه صاحب عقل فلسفي لشك في هذا العقل نفسه وامتحنه وأخضعه للتجربة على نمط، يحلل فيه المعرفة في الطبيعة وما وراء

<<  <   >  >>